هل ستضرب الأزمة الولايات المتحدة الأمريكية؟
مازال شبح الأزمة المالية والاقتصادية العالمية يحوم فوق جميع بلدان العالم، وخصوصاً الدول الصناعية. وهذه المرّة قد يضرب، من جديد، الولايات المتحدة نفسها، حيث حذر تقرير مكتب ''أبحاث الموازنة'' التابع للكونجرس الأمريكي، من تزايد احتمالات تعرض الولايات المتحدة لأزمة مالية مفاجئة، على شاكلة أزمة الديون السيادية، التي ضربت اليونان، وضربت إيرلندا، وعصفت من قبلهما بالأرجنتين.
ويعي واضعو التقرير، الذي صدر في الثالث من (آب) أغسطس الجاري، خطورة الوضع، كونهم يعرفون جيداً هول وحجم العواقب المالية والاقتصادية، التي ستعصف بالاقتصاد الأمريكي، وتضعف مركزه القيادي العالمي، كونها ستلحق به خسائر فادحة، تصل إلى 3.7 تريليون دولار من الأموال الأجنبية المستثمرة في سندات الخزانة الأمريكية، من بينها 400 مليار دولار من أرصدة الاحتياط العربية الرسمية.
واللافت أن التقرير تحدث بجرأة لافتة حول سياسات الحكومة وخططها، وحمل بشدة على المسلّمة الاستثمارية، التي ترى أن بإمكان الحكومة الأمريكية مضاهاة جميع حكومات العالم في قدرتها على إصدار سندات الدين، من دون التسبب في أزمة مالية، نظراً لأن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر ملاذاً آمناً، حيث يتعامل المستثمر الدولي مع سندات الخزانة الأمريكية، بوصفها من أكثر الأدوات الاستثمارية أماناً، لكن الاحتمال المقابل، بحسب التقرير، هو بعكس ذلك، إذ إن ''الحكومة الأمريكية لا تستطيع مضاهاة نظيراتها من الحكومات في إصدار سندات الدين'' من دون عواقب، ويعود ذلك إلى حاجة أمريكا إلى المستثمر الدولي، نظراً لتدني مستوى الادخار الخاص لديها، مقارنة بمعظم الدول المتقدمة الأخرى، إضافة إلى أن ''قسماً كبيراً من سندات الدين الأمريكية بيعت، بالفعل، للمستثمرين الأجانب''.
وقد اشترى ''الاحتياطي الفيدرالي'' الأمريكي معظم سندات الخزانة الأمريكية التي تمّ إصدارها في الربع الثاني من هذا العام، كما اشترى الأجانب ما قيمته 380 مليار دولار من سندات الخزانة الأمريكية، وهناك نقص في الطلب على سندات الخزانة يساوي 598 مليار دولار, أي نحو ثلث الإصدارات الجديدة.
غير أن شراء بنك الاحتياطي الفيدرالي لسندات الخزانة طويلة المدى، يصب في سياق محاولته الحفاظ على انخفاض عائد السندات، خوفاً منه من تحول الدين إلى أموال. لكن التضخم قد يصل إلى معدل 100 في المائة، بما يفضي إلى انخفاض قيمة الدولار بنسبة 100 في المائة، وبالتالي سيتعين على الأمريكيين أن يدفعوا 2.80 دولار لليورو الواحد، ويمكن أن يصل سعر أونصة الذهب إلى ألفي دولار. وهو أمر مستبعد حالياً.
وكانت الصين قد زادت من استثماراتها الهائلة في الديون الحكومية الأمريكية، حيث جمعت خلال السنوات الخمس الماضية احتياطيا دولياً بالدولار بشكل غير مسبوق. وهي تمتلك حالياً نحو 13 في المائة من مجمل سندات الخزانة الحكومية الأمريكية التي يملكها القطاع الخاص، حيث اشترت في عام 2007 ما يقارب 75 في المائة من الإصدارات الشهرية لوزارة الخزانة الأمريكية. وحسب تقديرات معهد بيترسون لعلم الاقتصاد الدولي، فإن عجز الولايات المتحدة سيصل إلى 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، وقد تصل قيمة مديونيتها الصافية لبقية العالم إلى 140 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي. في تلك الحالة، سيكون على الولايات المتحدة دفع 7 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي كل سنة على شكل فائدة لأطراف أجنبية تمتلك ديونها.
وسيشكل الدين الكبير خطراً شاملاً على الولايات المتحدة، كونه سيزيد الضرر الذي يلحقه بالاقتصاد الذي تلحقه بها آثار الأزمة المالية الحالية، التي لم تنهِ بعد. والمتوقع، حسب التقرير أن يصل العجز في الميزانية عام 2019 إلى 1200 مليار دولار. وحينها يتوقع أن تصل العائدات الضريبية إلى نحو ألفي مليار دولار، وعليه ستكون هناك حاجة إلى زيادة الإيرادات الضريبية بنسبة 60 في المائة لإحداث توازن في الموازنة. وهو أمر صعب الحدوث على وجه العموم.
ويرى المشرفون على تقرير ''أبحاث الموازنة'' التابع للكونجرس أن حجم الدين الحكومي، لا يعدّ العامل الوحيد لزيادة احتمالات حدوث أزمة مالية، فقد حدثت الأزمة اليونانية عندما كانت ديون اليونان السيادية تعادل نسبة 110 في المئة من ناتجها المحلي، وضربت إيرلندا الأزمة بالرغم من أن ديونها كانت لا تتعدى نسبة 70 في المئة من ناتجها. لكنهم لم يقللوا من خطورة حجم الدين، وحذروا من أن سياسات الحكومة، التي تتبعها بخصوص تمديد قوانين الخفض الضريبي، التي سنّها الكونجرس عامي 2001 و2003، ستفضي إلى ارتفاع حجم الديون السيادية من 36 في المئة من ناتجها عام 2007 إلى 64 في المئة عام 2010، وستصل إلى 90 في المئة عام 2020، وإلى ما نسبته 109 في المئة عام 2025.
وتتذمر الحكومة الصينية، في هذه الأيام، نظراً لامتلاكها كمية كبيرة ومفرطة من سندات الخزانة الأمريكية، ويبدو أنه من المرجح اللجوء إلى خفض قيمة الدولار إلى حد كبير، لأن الحكومة الأمريكية يمكنها أن تطبع منها بقدر ما يقرر بنك الاحتياطي الفيدرالي أنها بحاجة إليه. وإذا لجأت الإدارة الأمريكية إلى حل الأزمة المالية بطريقة غير مسؤولة، أي من خلال طبع مزيد من العملة، بغية تمكنها من دفع المستحقات الحالية، والتسبب في تضخم يقلص من قيمة الديون، فإن معدلات الفائدة قد ترتفع بنسب كبيرة.
ولا شك في أن الزيادة الكبيرة في المديونية ستؤدي إلى التخلف عن دفع المستحقات، الذي يحدث عادة عندما يكون الدين الحكومي بعملة أجنبية، أو إلى حدوث قفزة في التضخم الذي يجعل المقرضين في وضع حرج. لكن من غير المرجح أن تتخلف الولايات المتحدة الأمريكية عن تسديد ديونها، لأنها كلها بالدولار، وقد تزداد الأمور سوءاً في المعيار التقليدي للديون السيادية، المعتمد من طرف صندوق النقد مرجعاً لمستوى مديونية دوله الأعضاء. ووفق هذا المعيار، يصل حجم الديون السيادية الأمريكية الإجمالية إلى 13.3 تريليون دولار، وسيتجاوز 90 في المئة من الناتج الأمريكي مع نهاية 2010، وسيصل إلى مستوى 100 في المئة العام المقبل، لذلك نبه صندوق النقد الدولي الحكومة الأمريكية من أنها ستضطر إلى تمويل جزء كبير من عجزها المالي الضخم محلياً.
وفي حال حدوث ارتفاع حاد في نسبة المديونية، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، فإنه سيفضي عادة إلى ارتفاع في نسبة الفائدة الحقيقية، حيث يؤكد الاقتصاديون أن ارتفاعا بنسبة 20 في المائة في نسبة المديونية الحكومية، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، سيؤدي إلى زيادة 20ـ120 نقطة أساسية وإلى زيادة من 0.2 إلى 1.2 في المائة في معدلات الفائدة الحقيقية. ومن غير المستبعد أن يطالب المستثمرون الأجانب في الولايات المتحدة بمعدل فائدة أعلى على سندات الخزانة الأمريكية، وذلك للتعويض عن انخفاض قيمة الدولار.
ويتوقع مكتب ''أبحاث الموازنة'' التابع للكونجرس أن ترتفع قيمة خدمة الدين، بواسطة دفع الفوائد، من 8 في المائة من الإيرادات عام 2009 إلى 17 في المائة بحلول عام 2019، حتى وإن بقيت معدلات الفائدة متدنية واستعاد النمو زخمه. وإذا ازدادت معدلات الفائدة قليلا وشهد الاقتصاد ركودا، ستصل النسبة إلى 20 في المائة بشكل أسرع بكثير. وحين تخصص الحكومة نسبة أكبر من الميزانية لدفع الفوائد، لا بد أن يتم التخلي عن نفقات أخرى, وفي معظم الأحيان، يتم التخلي عن الإنفاق العسكري، المكلف جداً، لكن هل يمكن للولايات المتحدة الأمريكية التخلي عن إنفاقها العسكري؟
الجواب هو لا، بالطبع، لكن يبدو أن التخطيط يجري، منذ الآن، بغية تقليص وتخفيض نسبة الأموال المخصصة للأمن القومي في الميزانية الفيدرالية، حيث يتوقع، بحسب خطة وزارة الدفاع الأمريكية ''البنتاغون'' الحالية، أن ينخفض الإنفاق العسكري بأكثر من 4 في المائة، حالياً، إلى 3.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015، وصولا إلى نسبة 2.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2028. بالمقابل، يتوقع الاقتصاديون الأمريكيون، أن يزداد، على المدى الطويل، الإنفاق على العناية الصحية من 16 في المائة إلى 33 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن الإنفاق على أمور أخرى غير الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، ودفع فوائد الديون سيعرف انخفاضاً من 12 في المائة إلى 8.4 في المائة، حسب تقديراتهم.
غير أن التاريخ السياسي للدول والإمبراطوريات، يفيد بأن مقدمات وعوامل الانهيار والسقوط تبدأ بتفاقم الديون، وتنتهي بتخفيض ميزانيات التسلح والعسكرة، فالإمبراطورية العثمانية سقطت حين بدأت بالتنظيمات التي أفضت إلى حلّ الجيش الانكشاري، ووصلت نسبة دفعها للفوائد وخدمة الدين في أواخر عهدها إلى أكثر من 60 في المائة من ميزانيتها. وقبلها، كانت الإمبراطورية الفرنسية تدفع في الفترة السابقة للثورة 62 في المائة من الإيرادات الملكية على خدمة الدين قبل عام 1788، وكذلك كانت الفوائد تستهلك الإمبراطورية الإنجليزية بما نسبته 44 في المائة من الميزانية البريطانية، ولم تتمكن وقتها من إعادة تسلحها في وجه التهديد الألماني. وفي كل ذلك عبرة لمن يعتبر.