تطوير العمل الخيري أداء وتمويلا
كنت قد كتبت عدة مقالات عن الأهمية البالغة للدور الذي تؤديه المؤسسات الخيرية والوقفية. ودعوت لتطوير عمل هذه المؤسسات أداء وتمويلا، وسعدت عندما أعلن نقل الإشراف على الأوقاف من الإدارة الحكومية المباشرة إلى هيئة عامة مستقلة، وبينت كيف أن هذا النقل سيرفع من كفاءة عمل المؤسسات الوقفية من الناحية الإدارية والاقتصادية، ويعزز الدور الذي يمكن أن تؤديه الأموال الوقفية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعنا إذا ما أحسن إدارة هذه الأموال وأتقن فن استثمارها وأخضعت لرقابة ومراجعة نظامية كافية.
وقد استرعى انتباهي المقال الذي كتبه الزميل الدكتور عبد العزيز الغدير في صفحة الرأي هنا في غرة شهر رمضان، ونبه فيه إلى أهمية الحفاظ على نشاط مؤسسات العمل الخيري في بلادنا، بل وضرورية تيسير سبل تطويره وتنميته. وحذر من مغبة التراجع الذي انتاب أنشطتها في السنوات التسع الأخيرة بسبب تعرضها لصعوبات جمة في توفير الأموال اللازمة لها للنهوض بأدوارها المهمة والمكملة لدور الحكومة في تقديم الخدمات التي تحتاج إليها شريحة مهمة في المجتمع. وذكر الدكتور الغدير - حفظه الله - سببين لهذا التراجع: أولهما تخوف المحسنين من اتهامهم بتمويل الإرهاب من حيث لا يشعرون. وثانيهما هو أثر الأزمة المالية العالمية في بعض كبار المحسنين الذين خفضوا مساهماتهم بسبب ضيق السيولة لديهم، ما جعلهم يخفضون إنفاقهم على المجال الخيري لمواجهة التزاماتهم التجارية والشخصية. وأحب أن أضيف سببين آخرين وهو أن العمل الخيري يعاني تخلفا كبيرا في الأداء وطرق التنظيم. قد تعاني بعض المؤسسات الخيرية قلة المال، بيد أن ذلك ربما يرجع لانخفاض كفاءتها التشغيلية وقلة الثقة بالقائمين على شؤونها. فقد علمت مثلا أن شخصية سعودية قدمت لمؤسسة مالية دولية إسلامية نحو 150 مليون دولار لصرفها في أوجه الخير! والسبب الثاني هو غياب التنظيم والقوانين الكافية التي تسمح بتوفير الإطار القانوني لمزاولة العمل الخيري. وقد لمست هذا وسمعته بنفسي من كثيرين من الذين لهم باع طويل، سواء في ممارسة العمل الخيري أو في التبرع له. وعرفت من أخي المهندس صبحي بترجي صاحب مستشفيات السعودي الألماني - وهو من المهتمين بالعمل الخيري، خاصة في مجال الخدمات الطبية - أن أكبر عقبة تواجه نشاطه الخيري ليست توفير المال بقدر ما هي غياب التنظيم والقوانين التي تسهل سرعة إقامة مؤسسات خيرية طبية، ومع ذلك فالعمل الخيري في حاجة قطعا لأساليب وآليات جديدة لتطوير مصادر دخل مستقرة تضمن استمرار تدفق خدماته بلا تقلب أو انقطاع.
والحقيقة أن عددا من الغيورين على مصالح المجتمع باتوا يخشون من هذا التراجع في نشاط المؤسسات الخيرية، نظرا لآثاره غير المحمودة على استقرار المجتمع وسلامة تماسك بنيانه الاجتماعي. فالتغيرات الخطيرة في المجتمعات تكون حصيلة تراكمات تدريجية من السلبيات والغفلة عن القيام بالواجبات التي قد يستهين بها البعض، لأنها لا تمس حياتهم أو لا يفطنون لخطورة مآلاتها. ومن ذلك إهمال الفئات الفقيرة في المجتمع، وعلينا والله الحذر الشديد من هذا الإهمال، فإن رفاهيتنا واستقرارنا منوطة بسلامتهم (هل تنصرون إلا بضعفائكم)!
ولا شك أن تراجع خدمات العمل الخيري، إضافة إلى ارتفاع نسب البطالة، فضلا عن زيادة ضغوط تكاليف الحياة وتراجع مستويات الدخول الحقيقية لأغلب السكان مع استمرار ارتفاع معدلات التضخم في السنوات الأخيرة، بات يشكل لنا تحديات اقتصادية جادة من الممكن جدا أن تتحول نتيجة عدم الاكتراث أو تأجيل التصدي لها أو سوء تقدير نتائجها.. أقول من الممكن أن تتحول إلى كوارث قومية لا قدر الله.
ما من شك أن أغلب المؤسسات الخيرية عندنا تفتقر إلى الإطار المؤسسي الذي يحقق المرونة والكفاءة في الإدارة مع خضوعها لدرجة عالية من رقابة الأداء بشكل يرتبط بتحقيق أهدافها، ويؤكد هويتها كقطاع ثالث غير ربحي له أهداف عامة اجتماعية لكنه يستلهم أسلوب كفاءة الإدارة الخاصة دون الإخلال بمبدأ الرقابة والتوازن. وقد سبق أن بينت كيفية تطوير عمل المؤسسات الخيرية، لكنا في حاجة إلى تطوير أساليب جديدة لتنمية مصادر دخل مستقرة للعمل الخيري، أناقشها في مقال قادم بحول الله.