آثارنا وتراثنا ورحلة التصحيح
الآثار ومعالمها وتاريخها هي قصة مجتمع, وتستطيع أن تحدد مدى تقدم المجتمعات وتطورها من خلال القراءة المتأنية والمعرفة المتعمقة بآثارها وجهود سكانها, والآثار تعتبر الدليل الوراثي للحضارة الإنسانية والعمرانية والاقتصادية لأي مجتمع. التراث العمراني والهوية العمرانية هي المساند المعرفي الأهم لقراءة تاريخ الأمم وتحضرها, وبين الآثار والتراث العمراني تكتب قصص الشعوب وتاريخها وحضارتها.
العالم اليوم ينظر إلى الآثار والتراث على أساس أنهما الملهمان للحضارة الحديثة, ولهذا تحرص الشعوب المتحضرة على حمايتها ورعايتها وتطويرها واستثمارها بما يخدم إنسانها ومكانتها بين الشعوب.
في المملكة العربية السعودية, خلال سنوات طويلة, لم تحظ المواقع الأثرية والتراثية بشكل خاص بالرعاية التي تستحقها, وكانت أغلبية المواقع الأثرية والتراثية تتعرض للسرقة والاعتداء والاستملاك ثم الهدم, ومع أننا نعرف أهمية الآثار والتراث العمراني, ونردد دائما قصيدة أبو العلاء المعري عندما قال:
مررت برسم في سيات فراعني
به زجل الأحجار تحت المعاول
تنازعها عبل الذراع كأنما
رمى الدهر فيما بينهم حرب وائل
أتتلفها شلت يمينك خلها
لمعتبر أو زائر أو مسائل
منازل قوم حدثتنا حديثهم
ولم أر أحلى من حديث المنازل
هذه المعاناة التراثية الأثرية بدأت تخرج من أزمتها مع الجهود المباركة التي تقوم بها الهيئة العامة للسياحة والآثار وعلى رأسها الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة الذي بدأت جهوده الفردية للتعريف بأهمية التراث العمراني قبل أكثر من 30 عاما ثم من خلال الجمعية السعودية لعلوم العمران عندما كان الرئيس الفخري لها, وكذلك من خلال مؤسسة تراث التي اهتمت بإبراز المفهوم والأسلوب العلمي والعملي لرعاية الآثار والتراث وإظهار التجارب الناجحة, ورعاية جائزة الأمير سلطان بن سلمان للتراث, كل هذه الجهود المباركة من سموه اجتمعت مع بعضها لتعمل على تحقيق هذا الطموح العالمي من خلال الهيئة ورعايتها المواقع الأثرية والتراثية وتوثيقها ضمن المواقع العالمية المسجلة للتراث العالمي التابعة لـ ''اليونسكو'', فبعد ضم موقع مدائن صالح جاء حي طريف في مدينة الدرعية التاريخية لينضم كثاني موقع تراثي لـ ''اليونسكو'', هذا الانضمام الذي يعني إلزامية الاهتمام بالتراث ورعايته واستغلاله بما يحقق الاستفادة المعرفية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة, التي غابت خلال السنوات الماضية عن أعمالنا العمرانية والمعمارية والاقتصادية.
إن بدء انضمام المواقع التراثية السعودية لقائمة ''اليونسكو'' يعتبر البداية الصحيحة للاستفادة من تراثنا وإلزامنا برعايتها وتطويرها, هذا الانضمام هو جهد سنوات من رئيس الهيئة وزملائنا في الهيئة العامة للسياحة والآثار, هذا الجهد المبارك نأمل أن يستمر لضمان انضمام العديد من المواقع التراثية الأخرى, مع علمنا جميعا أن متطلبات الانضمام تحتاج إلى جهود كبيرة ومضاعفة من مختلف المؤسسات الحكومية والخاصة والأهلية, وكذلك من الأفراد, وبالذات ملاك المواقع الأثرية, لأنهم سيحققون مكسبين, الأول الحفاظ على تلك المواقع الأثرية التي تخلد ذكرهم وذكر أسرهم, ثم المكسب الآخر إعادة استثمارها بما يحقق لهم عوائد استثمارية دائمة ومستمرة.
إن التوجه المتوقع من الهيئة العامة للسياحة والآثار في هذا الشأن هو إعداد دراسة اقتصادية لتحقيق حسن استثمار هذه المواقع وضمان صيانتها بما يحقق أيضا استدامة بقائها وتطويرها والحفاظ عليها كنماذج عمرانية لتجارب الآباء والأجداد خلال الحقب التنموية التي مرت بها المملكة خلال العقود الماضية. ومع قناعتي وإيماني بأن الهيئة العامة للسياحة والآثار لم يغب عنها هذا البعد الاقتصادي التنموي إلا أن سرعة تنفيذه يضمن بعد الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ المحافظة على المواقع وعدم انهيارها, خصوصا أننا نعلم جميعا أن المباني إذا لم تستخدم فإنها تصاب بالخلل المؤدي إلى الانهيار وفقا لقاعدة use it or Lose it.
لقد جعل الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار من حلم الحفاظ على المواقع التراثية وإعادة استخدامها حقيقة نعشقها جميعا, خصوصا من يعون معنى الاستنباط العمراني والمعماري منها, خصوصا أننا عشنا عمرا طويلا من الزمن ونحن نحمي تراثنا من خلال حصارها بالأسوار الشائكة وجعلها تموت واقفة إذا سلمت من السيد ''البلدوزر''.
وفق الله الجميع لما يجب وجعلنا نعمل من أجل وطن سعودي الانتماء, عربي اللسان, إسلامي المعتقد وعالمي الطموح.
وقفة تأمل
إلى الله كل الأمر في الخلق كله
وليس إلى المخلوق شيء من الأمر
إذا أنا لم أقبل من الدهر كلما
تكرهت منه طال عتبي على الدهر
تعودت مس الضر حتى ألفته
وأحوجني طول الضراء إلى الصبر
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا
ندمت على التفريط في زمن البذر