تطوير العمل الخيري أداء وتمويلا (2)
من وسائل محاربة الفقر توسيع خدمات القطاع الخيري، ومع ذلك فإن كثيرين لاحظوا تراجع خدمات القطاع الخيري في مجتمعنا في السنوات التسع الأخيرة نتيجة بعض القيود التنظيمية وتراجع مساهمات أهل الخير. فإذا أضفنا إلى ذلك ظاهرة ارتفاع نسب البطالة، إلى جانب ما خلفته انتكاسة سوق الأسهم من حالات مأساوية، فضلا عن زيادة ضغوط تكاليف المعيشة وتراجع مستويات الدخول الحقيقية لأغلبية السكان مع استمرار ارتفاع معدلات التضخم في السنوات الأخيرة، فإن الصورة الإجمالية غدت تشكل تحديات اقتصادية جادة تمس حياة شريحة من المواطنين. ويخشى الغيورون أن تتحول هذه الصعوبات بسبب عدم الاكتراث أو تأجيل التصدي لها أو سوء تقدير نتائجها، إلى قنابل موقوتة لا قبل لنا بها. فالتغيرات الخطيرة في المجتمعات تكون حصيلة تراكمات تدريجية من السلبيات والغفلة عن القيام بالواجبات التي قد يستهين بها البعض لأنها لا تمس حياتهم أو لا يفطنون إلى خطورة مآلاتها. ومن ذلك إهمال الفئات الفقيرة في المجتمع، وعلينا الحذر الشديد من هذا الإهمال، فإن رفاهيتنا واستقرارنا منوطة بسلامتهم (هل تنصرون إلا بضعفائكم)!
يعاني العمل الخيري في بلادنا غياب الأطر التنظيمية والقوانين الكافية التي تسمح بانطلاق وتنوع الأنشطة الخيرية التي تشتد حاجة المجتمع إليها, ففي عصر تتسارع فيه معدلات نمو السكان وتتوسع حاجاتهم وتنقلب فيه الكماليات إلي ضروريات، يغدو من المهم أن نفسح الطريق أمام المؤسسات الخيرية اللاربحية لتعزز دورها في خدمة المجتمع إلى جانب المؤسسات الحكومية والخاصة, فلنتصور مثلا مقدار العجز الشديد في الخدمات الطبية الذي كان يمكن أن يحدث في مجتمعنا لو أنها اقتصرت خلال العقود الثلاثة الماضية على خدمات الحكومة فقط! لكن مجتمعنا يحصد اليوم ثمار سياسات تشجيع القطاع الخاص على ولوج هذا المجال. وكما اقتضت الظروف توسيع دور القطاع الخاص في الماضي، فإننا في حاجة ماسة في يوم الناس هذا إلى السماح لمؤسسات القطاع الثالث الخيري بالمساهمة في توفير جزء من الخدمات التي يحتاج إليها الناس, بما فيها الخدمات الطبية. بيد أن افتقارنا إلى وجود قانون يسمح للراغبين بتكوين مؤسسات لا ربحية عطل هذا الدور! لذلك فالحاجة ماسة اليوم إلى أن تقوم وزارة التجارة والصناعة بالإذن لمن يرغب من أهل اليسار والمحسنين بتسجيل وإنشاء مؤسسات لا ربحية يسمح لها القانون بتقاضي رسوم منخفضة (حتى لا تعتمد على تبرعات متقلبة) وتحقيق هامش ربح بسيط غير قابل للتوزيع، وإنما قابل لإعادة ضخه واستثماره في أعمال المؤسسة لتوسيع نشاطها أو تطويرها.
وأنا لا أتكلم هنا عن أفكار نظرية, بل عن حقائق ملموسة على أرض الواقع, فرجل مثل المهندس صبحي بترجي صاحب مجموعة مستشفيات السعودي الألماني, وهو من المهتمين بالعمل الخيري في مجاله، وممن يتبرع بإقامة مستشفى بـ 200 سرير في المشاعر المقدسة في موسم الحج دون أن يكتب عليها اسم مستشفاه، ويرغب الآن في إنشاء مؤسسات خيرية طبية دائمة, يصطدم بواقع عدم وجود قانون يسمح له بذلك!
في لقاء جمعني الأسبوع الماضي بأخي الدكتور ماجد القصبي مدير عام مؤسسة الأمير سلطان الخيرية في قصر الأمير فيصل بن عبد الله وزير التربية والتعليم في جدة، عرفت منه أن 80 في المائة من خدمات المؤسسة تتركز في الخدمات الطبية، وأكدت له أن خدماتهم تشكل رافدا مهما إلى جانب الخدمات الحكومية والخاصة, لكننا في حاجة إلى توسيع هذا الدور بالإسراع في إصدار اللوائح والأنظمة التي تساعد أهل الخير على القيام بأدوارهم أيضا. ومثل هذه اللوائح ستقنن العمل الخيري وتضعه تحت الرقابة المباشرة لأجهزة الدولة، كما أن انتشار هذه المؤسسات سيولد فرص عمل متعددة، والأهم أنها ستقدم خدمات ذات نوعية جيدة وتكاليف منخفضة ستخدم حاجة الناس, خاصة في المدن الصغيرة والمتوسطة. وكلامي هنا دقيق عن النوعية الجيدة والتكاليف المنخفضة، وسأدلل عليه في مقالة قادمة.
ونحن لنا في ولاة أمرنا قدوة حسنة في هذا المجال, فعندنا أيضا المؤسسات الخيرية التي يرعاها الأمير سلمان بن عبد العزيز ـــ أعاده المولى لنا سليما معافى ـــ كمؤسستي ''إنسان '' و''كـِـلانا '', فهذه مؤسسات متطورة إداريا وماليا وسدت حاجة ماسة من حاجات المجتمع. إنني أناشد أخي حسان عقيل وكيل وزارة التجارة للتجارة الداخلية العمل على سرعة إصدار مثل هذه اللوائح، فالخيرون في مجتمعنا كثر وعلينا أن نفسح لهم المجال للعمل المنظم الموثوق.