تطوير العمل الخيري أداءً وتمويلا (3)

من مزايا المؤسسات الخيرية أنها تستطيع أن تقدم للناس بعض الخدمات بكفاءة اقتصادية أفضل، سواء من حيث نوعية الخدمة أو تكلفتها. وقد سبق أن ذكرت أن المؤسسات الطبية التي تعمل تحت مظلة المؤسسات اللاربحية هي في الواقع أقدر من سواها على تقديم الخدمات الطبية بكفاءة عالية؛ ولهذا السبب تسهم المؤسسات الوقفية في النظام الأمريكي بتغطية 56 في المائة من الخدمات الطبية، بينما تغطي المؤسسات الحكومية نسبة 32 في المائة والباقي تغطيه المستشفيات الخاصة. بل تشير البيانات الإحصائية الأمريكية إلى أن المؤسسات الوقفية تنفق على السرير الواحد أكثر مما ينفق كل من القطاعين العام والخاص؛ ما يعني أن القطاع الخيري الصحي يقدم عناية أكثر بالمريض من القطاعين العام والخاص! وتفسر بعض الدراسات ذلك بارتباط القطاع الخيري بضمير حي في العادة على الأقل على مستوى المتبرعين وبعض القيادات العليا للمؤسسات الخيرية.
ويرجع سبب تفوق المؤسسات الخيرية في مجال الخدمات الطبية بالذات لقدرتها على تخفيض الخطر الأخلاقي المصاحب للعلاقة التعاقدية بين الطبيب العامل في القطاع الخاص والمريض. فمن المعروف أن مصالح الطرفين في هذه العلاقة التعاقدية متضاربة. فقد يسعى الطبيب العامل في مؤسسة طبية خاصة بسبب دافع تعظيم الربح، وانعدام الحس الأخلاقي، وعدم تساوي المعلومات الطبية بين الطبيب والمريض، لتكليف المريض نفقات إضافية قد لا يكون في حاجة إليها كنفقات بعض العمليات الطبية أو التحاليل والأشعات وسواها! لكن هذه الحالة لا تحدث في المستشفيات الوقفية؛ لأن أية أرباح تحققها لن يستفيد منها العاملون فيها بشكل مباشر، وإنما ستوجه مثل هذه الأرباح لتوسيع المصحة أو تحسين خدماتها أو تطوير أبحاثها الطبية.
ليس هذا فقط، بل يمكن القول إن المؤسسات الطبية الخيرية اللاربحية التي توجه خدماتها للفئات غير القادرة في المجتمع، تستطيع تقديم خدمات نوعية بتكلفة أقل. وقد أكد لي بعض العاملين في القطاع الطبي الخاص أن هذا ممكن جدا من الناحية العملية؛ لأن بإمكانهم شراء مستلزمات ومعدات وأدوية طبية بتكلفة أقل من خلال علاقاتهم التجارية العادية من متعهدي هذه المستلزمات، سواء بسبب الكم الكبير الذي يتعاملون به أو بسبب وجود قسم خاص للخدمات الخيرية لدى هؤلاء المتعهدين. فعندما يشتري منهم صاحب مستشفى خاص مستلزمات بـ 100 مليون ريال، ثم يرغب في مستلزمات وأدوية لغرض خيري سيمدونه بها بتكاليف منخفضة. هذا من حيث الأجهزة والأودية، أما من حيث خدمات الأطباء فمنهم من هو مستعد للتبرع بجزء من وقته، ويمكن حينئذ الحصول على خدماتهم بما فيهم المميزون منهم دون مقابل أو بمقابل رمزي من خلال جدولة خدماتهم. وهذا ليس كلاما نظريا فهناك بالفعل مجموعة من الأطباء في جامعة الملك عبد العزيز يقدمون هذه الخدمات الخيرية تحت مسمى: الأيدي الطبية المتحدة.
والآن ما الذي يمنع انتشار مثل هذا النوع من المؤسسات الخيرية بطريقة نظامية تقع تحت الرقابة المباشرة لأجهزة الدولة؟ لتعمل بجانب المصحات الحكومية والخاصة في تقديم الخدمات الطبية التي أخذ الطلب عليها ينمو بمعدلات عالية مع نمو عدد السكان؟
نحن لا نعدم وجود الإرادة الخيّرة ولا ينقصنا محسنون، فالخير باقٍ في الناس ولله الحمد والمنة. ما نفتقده هو التقنين! نفتقد وجود لوائح وأنظمة قانونية تسمح بقيام مثل هذا النوع من المؤسسات ابتداء، بما في ذلك لوائح تنظم مصادر تمويلها. فلا يوجد لدى وزارة التجارة والصناعة أنظمة تسمح بتسجيل مؤسسات خيرية غير هادفة للربح، تتقاضى رسوما منخفضة (حتى لا تعتمد كليا على التبرعات المتقلبة) بجانب هامش ربحي بسيط غير قابل للتوزيع؛ لذا فإني أناشد مرة أخرى أصحاب المعالي: وزير التجارة ووزير الشؤون الاجتماعية وصديقنا الدكتور بندر حجار نائب رئيس مجلس الشورى، وربما أيضا الإخوة في شعبة الخبراء في مجلس الوزراء، أن يعملوا جميعا على سرعة إصدار مثل هذه الأنظمة واللوائح؛ حتى لا تتسع الفجوة أكثر بين المتاح من الخدمات الطبية والطلب عليها، وغير ذلك من الخدمات التي يحتاج إليها الناس. لقد انقضى الزمن الذي كان على الحكومة أن تقوم بكل شيء، نحن في زمن مختلف يقتضى توسيع مشاركة القطاعين الخاص والخيري في توفير مختلف الخدمات للناس. وللحديث صلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي