تطوير العمل الخيري أداءً وتمويلا (5)
غرض هذه السلسلة من المقالات هو بيان مدى حاجة مجتمعنا إلى إفساح الطريق أمام مؤسسات القطاع الثالث الخيري اللاربحي؛ لتؤدى دورها في تلبية احتياجات الناس ومطالبهم المتعاظمة مع نمو أعدادهم، جنبا إلى جنب مؤسسات القطاعين العام والخاص. وقد تبيَّن لنا أن المؤسسات اللاربحية يمكن لها ـــ كما ثبت علميا من خلال حصول أحد الاقتصاديين على جائزة نوبل في الاقتصاد في موضوعها ـــ أن تحقق أفضل ما لدى المؤسسات الحكومية (وهو تبنيها أهدافا عامة اجتماعية) وأفضل ما لدى المؤسسات الخاصة (وهو كفاءة الأداء ومراقبة التكاليف). كما تبيَّن أننا في حاجة إلى تقنين العمل الخيري بإيجاد قواعد تنظيمية لهذا القطاع أسوة بما عليه الحال في بقية دول العالم. وناشدت المسؤولين العمل على وضع قواعد تنظيمية تسمح بتسجيل مؤسسات خيرية لا ربحية يجيز لها النظام تقاضي رسوم مخفضة وتحقيق هامش ربح محدود، لكنه غير قابل للتوزيع، وإنما لإعادة تشغيله في المؤسسات الخيرية ذاتها. وقلت إن هذا سيعزز تحقيق هدف خادم الحرمين الشريفين في محاربة الفقر، وهو هدف لن يكتب له النجاح بكفاءة عالية بالاعتماد فقط على الحكومة وتحميلها كل المسؤولية، بل بالسماح للمجتمع المدني بمؤسساته الخاصة والخيرية أداء دورها المكمل للجهد الحكومي. وأن وضع مثل هذا التنظيم سيقنن العمل الخيري ويضعه تحت الرقابة المباشرة لأجهزة الدولة المتعددة، وسيفتح آفاقا غير محدودة لثمرات اقتصادية واجتماعية نحن في أمس الحاجة إليها لضمان استقرار مجتمعنا، سواء من حيث توفير خدمات صحية وتعليمية وإسكانية نوعية بتكاليف بسيطة لفئات معينة في المجتمع، أو توفير فرص عمل إضافية أمام الجموع المتزايدة التي تقذف بها الأرحام وتفرخها المدارس والجامعات.
ويبقى أن أشير إلى إشكالية نقص التمويل اللازم الذي عانت منه بعض مؤسسات العمل الخيري في السنوات التسع الأخيرة. والذي يبدو لي من خلال ملاحظاتي ونقاشي مع العاملين في هذا المجال، أننا لن نعاني قلة المال إذا وضعت التشريعات والقوانين المنظمة لهذا العمل؛ فالخيّرون كثر وستزداد أعدادهم وترتفع ثقتهم مع ارتفاع مستوى كفاءة عمل المؤسسات الخيرية، ذلك أن بعض مؤسسات العمل الخيري لا تدار بكفاءة عالية بسبب تواضع الأداء الإداري وآليات رقابة العمل؛ لذا فهي في حاجة إلى رفع مستوى كفاءتها بتحويلها من تكيات حاضنة للفاشلين وغير المؤهلين إلى مؤسسات تحترف العمل الإداري المهني عن طريق جلب كفاءات إدارية رفيعة المستوى ومنحها الأجر الذي تستحقه من أجل تعظيم الاستفادة من موارد المؤسسات الخيرية في تحقيق أهدافها الاجتماعية المنشودة.
المؤسسات الخيرية متنوعة ومتعددة، وحديثي هنا ينصبّ على تلك التي يمكن أن يسمح لها النظام بتكوين دخل من خلال تقاضي رسوم محدودة وتحقيق هامش ربح بسيط غير قابل للتوزيع. مثل هذه المؤسسات تحتاج في مرحلة التأسيس ثم في مراحل التوسع إلى وجود مؤسسات تمويل توفر الدعم المالي وتتقاضى تكاليف تمويل منخفضة جدا أو تكاليف صفرية. ومن الأفكار الممكنة لتوفير موارد وقفية دائمة (أو مؤقتة كما أجاز المالكية) للمؤسسات الخيرية، أن تستحدث الدولة إنشاء صندوق أو بنك خيري، يتلقى ودائع خيرية دائمة أو مؤقتة لهذا الغرض من الدولة والشركات والمؤسسات والأفراد الراغبين في عمل الخير، ثم من خلال شروط وضوابط معينة وتطبيق معايير وأساليب التمويل المهنية يمول البنك المشاريع الخيرية بطريقة تضمن له استرجاع أمواله (وهي أموال الخيّرين من المودعين، فهي أموال أودعت من قبيل وقف النقود التي حكى عنها المالكية وأجازوا حتى الوقف المؤقت منها، كما تكلم عنها أيضا ابن عابدين في حاشيته وهو من متأخري الحنفية).
سبق أن تشرفت قبل عشر سنوات بالكتابة لولاة الأمر، وقدمت مقترحا لحل مشكلة طول قوائم الانتظار في صندوق التنمية العقاري، يقوم على استخدام أموال الصندوق في تقديم ضمانات للبنوك التي توفر هي بنفسها التمويل للناس، وهذا الاقتراح يضاعف عدد المستفيدين من كل قرض إلى 99 ضعفا. وبالمثل يمكن هنا أن تقدم الحكومة ضمانات للبنوك المحلية تضمن فيه لهم 75 في المائة من التمويل المقدم للجمعيات الخيرية، وإذا افترضنا أن نسبة مخاطرة البنوك في هذا النوع من التمويل لا تزيد على 25 في المائة. ففي هذه الحالة بدلا من أن تقدم الحكومة 100 مليون مثلا للجمعيات الخيرية، تستخدمه في تقديم ضمانات تمكّن البنوك من تمويل هذه الجمعيات بنحو 750 مليون ريال!
للعمل الخيري آفاق واسعة، نحتاج فقط إلى سرعة تقنينه وضبطه، وسنرى بعدها نقلة نوعية في العمل الاجتماعي وسنلمس نتائج مذهلة. والله من وراء القصد.