الإثنين, 5 مايو 2025 | 7 ذو القَعْدةِ 1446


طروحات رضوان السيد ومعن بشور وعزمي بشارة

في محاضرته التي حملت عنوان ''أَولويات الثقافة العربية ومشكلاتها'' التي ألقاها المفكر الدكتور رضوان السيد في معرض عمان الدولي قبل أيام، جال السيد في تنويعات الخطاب الثقافي العربي، وميز بين مناهج المثقفين وأولياتهم وهمومهم، ولم يكن على ما ظهر منه مقتنعا بجدوى الانشغالات التي شغلتهم أو وقفوا عند بابها.
فعبر أربعة عقود من الزمن تسمر المثقفون العرب الكبار عند ثلاث مسائل: الأولى كيفية تجاوز التراث، والدخول في حضن العالم الراهن بلا ثقل أو وطأة للمكون الثقافي، وثانيها كيف نحضر الغرب وعلى أي آلة نقدمه لأوطاننا المثقلة بالفشل، والثالثة إثبات أن الإسلام ليس هو المشكلة، بل الحل للراهن المعتم وأنه من الممكن له وأن يتفق مع الغرب.
في الثقافة العربية كانت نكسة عام 1967 الأكثر أثرا في ضرورة البحث عن خلاص، وهذا الخلاص لم تخرجه الأحداث الكبرى التي لحقت بالنكسة عن وجوب الضرورة، فلا اجتياح بيروت 1982، ولا حرب الخليج الأولى ولا الثانية، ولا الثالثة كانت كافية للتوقف عند تشخيص دقيق لسبل الخروج من الراهن.
في الحقبة الممتدة عبر أربعة عقود بعد النكسة نمت وولدت تسميات: كثيرة الدولة الوطنية، دولة العمال، الثقافة الوطنية، العرب والغرب، الوعي بالتأخر، وغيرها، وزاد انقسام المثقفون العرب كل حسب رؤيته للحل، ولم يحدث التلاقي بعد، وبدت الأوطان أكثر اختلالا بسبب المغالبة بين التيارات الفكرية ـــ بمعنى أن الافتراق الفكري قاد للضعف وليس للقوة.
حسبما يرى رضوان السيد في محاضرته المشار إليها فقد رأى المثقَّف الإسلامي الذي غادر مشروع الدولة الوطنية والقومية أنّ هذا موروثَ الإسلام الباقي لنا بعد أن اجتاحتنا الحداثة المتغربة، لذا عمل هذا المثقف على إحياء التُراث لصَون الهوية، وإن استخدم أساليب غربيةً لعينةً أو مرفوضة مثل المؤسسات النشرية، والأحزاب والحركات.
ويضيف السيد ''تطوَّر الأمر لدى المثقَّفين الإسلاميين من لَعْن الثقافة المتغربة والغزو الثقافي، إلى لَعْن الدولة الوطنية والثقافة الوطنية إذ اعتبروهما متغربتَين ثم جرت الصدامات التي تجلّت في صورة صراعٍ على السلطة في المجتمع والدولة''.
وفي رأي فهمي جدعان أن رفع شعار ''الإسلام هو الحل'' كان أقصى ما يعبر عن التوتر الداخلي بين المجتمع والدولة، لا بل هو تجسيد لمبدأ عصيان المجتمع على الدولة، أي أن مكونات المجتمع لم تقبل بالدولة التي ظلت عصية على تهضم أو تقبل بديلا لحقبة ما بعد الاستقلال. ووجه المفكر سمير أمين، نقداً لاذعاً في ندوة الحوار القومي ـــ الإسلامي، بيروت 2008 لشعار ''الإسلام هو الحل'' وتساءل: هل يمكن في عصر العولمة، أن يصبح هذا الشعار مقبولاً في المجتمعات غير المسلمة ـــ الصين والهند وأوروبا وأمريكا اللاتينية... إلخ؟ قطعاً لن يكون شعاراً مقبولاً لديها. وبالتالي، فإن محاولة العمل طبقاً لهذا الخيار لا بد ـــ إذا تم تعميمه ـــ من أن يقود إلى إعلان مشابه له في المناطق غير المسلمة، أي إلى إعلان أن ''المسيحية هي الحل'' هنا، والكونفوشيوسية هناك، والهندوسية في مكان آخر... إلخ''.
المثقف القومي والسياسي معن بشور أمين عام المؤتمر القومي العربي وصف ''التجربة الحزبية في نصف قرن'' قبل عشرة أعوام، وذلك في محاضرة ألقاها في منتدى عبد الحميد شومان بعنوان ''الوطن العربي وخيارات المستقبل''. وكان للرجل ملاحظات كبيرة على مسار الحركة الحزبية العربية وخيارات المثقف العربي، وأولى ملاحظاته على تجربتي عامي 1950 و2000 كانت في ''إن كل مرحلة تجتذب جيلاً من الشباب، يكون إلى حد كبير متحدِّراً من جيل انتمى إلى تيار سابق، فكثير من أعضاء الأحزاب القومية التغييرية التي شهدتها المنطقة هم أبناءٌ لأعضاء الأحزاب الاستقلالية التي لعبت دوراً مهماً في مرحلة مناهضة الاستعمار، كما أن كثيرا من أبناء القوميين بالأمس وجدوا ضالتهم اليوم في الحركات الإسلامية''.
ومع أن السؤال يبدو ممكنا هنا بالصيغة التالية: ما الذي يجعل الاستقلالي يتجه للقومي، أو ما الذي يحمل القومي على التحول إلى إسلامي؟ إلا أن العلة ليست في التحولات بقدر ما هي في البناء الذاتي وفي جوهر المسألة الثقافية وفي سيادة فكرة المغالبة وليس كما تصور بشور.
ذهب معن بشور قبل عشرة أعوام إلى ''إن الأغلبية الساحقة من المنتمين إلى مدارسنا الفكرية والعقائدية تتسم بكسل فكري فاضح يتمثل في الاكتفاء بما ورد في الكتب المرجعية، مستخرجين منها التعاليم الأساسية والشعارات العامة ليطرحوها كما هي، في وجه تعاليم الآخرين وشعاراتهم، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث الفكري والدراسة الميدانية في أعماق مجتمعاتهم''.
ولم يقف بشور عند حدّ القوميين، بل استعرض مختلف التيارات فيقول: ''القوميون مثلاً رفعوا شعار ''الوحدة هي الحل'' دون أن يقدموا برنامجهم لتحقيقها أو رؤيتهم لصيغتها، والاشتراكيون رفعوا شعار ''الاشتراكية هي الحل''، والليبراليون نادوا بأن ''الديمقراطية هي الحل''، والإسلاميون شددوا على أن ''الإسلام هو الحل''.
في رأي رضوان السيد أن المثقف القوميُّ الذي صار تقدمياً في الستينيات والسبعينيات، وكان قد انخرط في مشروع الدولة الوطنية؛ عالج المسائلَ ذاتَها التي عينها الإسلام، أي مسائل الموروث الديني والثقافي، بهدف الانفصال أيضاً عن الغرب الاستعماري، للتمكُّن من إقامة الدولة القومية بثقافةٍ وطنيةٍ تقدمية. ولذلك انصرف المثقفون الوطنيون والقوميون الكبار إلى القيام بعملية مزدوجة: التحرير من ثقافة الاستعمار، والتحرير من الموروث الديني والثقافي.
القوميون في نقدهم للاستعمار والتغريب، التقوا مع الإسلاميين واتفقوا على أن الليبرالية الغربية اختراق للعقل العربي وللدولة، لا بل صوروها على أنها معول هدم للدولة المستقلة الوطنية، ولعل تطابق اللحظة الراهنة عربيا مع اللحظة التي جرى فيها اندماج اليسار الستاليني في بنية السلطة في الأنظمة الرأسمالية للدولة إبان الستينيات وأوائل السبعينيات, عندما قام الشيوعيون المصريون بحل حزبهم لمصلحة التنظيم الواحد لعبد الناصر وانضم الشيوعيون العراقيون والسوريون بعد ذلك بقليل إلى ''جبهات'' شكلية مع القوى السائدة في تلك الأنظمة وصارت خاضعة لها بالكامل، في هذا التلاقي والاندماج ما يبرر بقاء الحال على ما هو عليه أو حتى استنهاض الأسئلة القديمة من جديد، وبالتالي الانتصار على القادم الليبرالي الجديد.
فمنذ حرب تموز (يوليو) 2006 ثم حرب غزة 2008 دخلت النخبة الليبرالية العربية الحادثة المحدثة في باب البيات، لشعور منها بأن عملية هضمها كانت عسرة، وأن المجتمع لم يقبل بها على النحو الذي قبل به بالنخبة القومية أو الإسلامية، وهذا ما يرجح عودة المثقف الإسلامي ويزيد التمسك بشعار ''الإسلام هو الحل''.
سؤال: ما العمل؟ أجاب عنه عزمي بشارة، في بيانه ''نحو مشروع ديمقراطي عربي''، وفي هذا البيان يقدم بشارة ''خلفية'' يعرض فيها ارتباط ''مشروع بناء الأمة'' ببلورة برامج وتحديد مطالب مفهومة و''يمكن للناس ربطها بمصالحهم المادية والحقوقية كمواطنين ومواطنات وبالمستقبل الذي يتوخوه لأبنائهم''. لكن نص بشارة ظل عموميا إنشائيا استعاديا، فحقوق الإنسان أو الآدميين والمواطنات والشرعيات والحريات كلها موجودة في خطاب المثقفين العرب الذين بحثوا عن حلول لاستنهاض الواقع منذ نحو أربعة قرون. والذي يجب أن يقال هو أن الواقع التاريخي لم يؤدِ إلى مشروع دولة المواطَنة والمواطنين، ما لم يعمق مبدأ تداول السلطة وما لم تتخل الدولة العربية عن جعل الإصلاح سببا لتجديد غلبتها، وجل ما طرحه بشارة يمكن ترحيله للتيار الديمقراطي العربي الذي قال لا دولة بلا ديمقراطية أو الديمقراطية هي الحل. بالعودة لنص رضوان السيد فإننا نجد أنه يحدد الأولويات العربية بالتركيز على أربعة أُمور؛ الأول المعرفة ُالشاملةُ والعميقةُ بالبُنى الثقافية والفكرية والمنهجية لعوالم العصر والعالم. والثاني استطلاعُ الثقافة السياسية الاستراتيجية لعمل العالَم، وكيف تُدارُ أنظمتُه، وما توجُّهاتُهُ الكبرى، وكيف يمكن التعامُلُ معها. والثالث بلورةُ الأُطروحات في المجالين الكبيرين: الفكري/ الثقافي، والسياسي. والرابع استعادة رسالة ودور المثقف العضوي والملتزم العامل من طريق التفاعُل والتجربة على مُراجعة المعارف والتوجُّهات والأُطروحات ونقدها وإنفاذها.
في مجمل المشهد الراهن عربيا، نجد أن المرجعات الثقافية قد أنجزت، ولعل المطلوب بعد نحو أكثر من قرن على التفكير في إصلاح أحوال الأمة، الذي ظهر في أدب ''اللوائح الإصلاحية'' التي أنتجها مثقفون عرب ومسلمون، ووجدت قبل عام 1905 عدة لوائح إصلاحية منها، لتوضح كيفية الخروج من مأزق الضعف، فإن أولويات المثقفين العرب يجب أن تكون أكثر واقعية وتبحث في الكيفيات والطرائق التي تجعل حياة المواطن العربي أقل انسداداً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي