على هامش تقرير مؤسسة النقد (2)
تقدَّم القول إن تحسن المؤشرات الكلية في اقتصادنا، مثل زيادة الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة الإنفاق الحكومي، ونقص الدَّين العام، وتحسن ميزان المدفوعات ونحوها، لا تعكس بالضرورة تحسنا نوعيا في مستوى معيشة الناس، وفي سلامة البيئة التي يزاول من خلالها رجال الأعمال نشاطهم الاقتصادي، دون أن يتم ذلك من خلال منظومة اقتصادية سليمة وصحية!
إن فاعلية أي نظام اقتصادي إنما تقاس بمدى نجاحه في تحقيق هدفين أساسيين: هما الكفاءة الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية. وقد بيَّنت التجارب المؤكدة أن إطلاق العنان للمنافسة بين الأفراد والمؤسسات أثناء ممارستهم الأنشطة التجارية، وعدم مزاحمة الحكومة لهم (التي يجب أن يقتصر دورها على التوجيه والتنظيم والتحقق من حرية تفاعل قوى العرض والطلب في مختلف الأسواق) سيضمن لنا ـــ إلى حد بعيد ـــ تحقيق هدف كفاءة النظام الاقتصادي، فيتمتع الجميع بارتفاع جودة ما ينتج من سلع وخدمات بجانب انحسار تكاليفها. وإذا عرفنا هذا نستطيع أن نفهم سبب الاختناقات والإخفاقات التي يعانيها اقتصادنا في قطاعات عديدة مثل الإسكان، والتعليم، والصحة، وخدمات النقل الجوي، وبعض خدمات المرافق العامة. فهي تفتقر لإجراءات تنظيمية حاسمة وسريعة تقضى على ما تراكم عبر السنين من انحرافات في التنظيم الاقتصادي، وتؤسس لبيئة صحية تعمل بذاتها ـــ متى ما وجدت ـــ على الاستجابة الفعالة لمواجهة مختلف التحديات، حيث تضع اقتصادنا على الطريق الصحيح الذي يقودنا لحل هذه الاختناقات.
فعلى سبيل المثال، فإن الناظر للتحديات التي يفرضها معدل نمو السكان العالي في بلادنا وطبيعة تركيبته الشبابية على قطاع الإسكان، يرى كم يئن هذا القطاع تحت وطأة مشكلات هيكلية وتنظيمية مزمنة لا يمكن تجاوزها دون تطوير منظومة متكاملة من الإجراءات القانونية والفنية والتمويلية. قطاع الإسكان يأتي في المرتبة الثانية في اقتصادنا من حيث الحجم بعد قطاع النفط والغاز، والاختناقات فيه تولد صعوبات في قطاعات أخرى؛ لذلك سيكون لتطوير قطاع الإسكان وإعادة هيكلته أثر كبير ليس فقط في رواجه، بل وفي رواج قطاعات أخرى مرتبطة به رأسيا وأفقيا. وقس على ذلك بقية القطاعات، ففي مجال خدمات النقل الجوي وجدنا أنفسنا بدلا من فتح باب المنافسة نستبدل محتكرا بمحتكر آخر!
هذا ما كان من أمر الكفاءة الاقتصادية، أما فيما يتعلق بجانب العدالة الاجتماعية، فإن النظام الاقتصادي الجيد يحتاج بجانب إطلاق حرية الأسواق والمنافسة، إلى آليات وترتيبات وأنظمة تضمن عدالة توزيع الموارد والثروات والفرص التجارية بين أفراد المجتمع، وهذا لن يتحقق إلا بالشفافية وتفعيل مؤسسات المشاركة الشعبية ومؤسسات الرقابة والمتابعة والمحاسبة. فمن غير المعقول أن يفاجأ الناس بقرارات اقتصادية كبيرة تؤثر على اقتصادهم دون أن يكون لهم رأي فيها!
وفي تصوري، أن من أهم ما نحتاج إلى أن نبدأ به هو تجديد حيوية القطاع العام وتحديث مؤسساته، وتطوير أنظمته نظرا إلى دوره الحاسم في توجيه مسيرة التنمية في اقتصادنا. قطاعنا العام في حاجة ماسة إلى تجديد شبابه بدعمه أولا بكفاءات إدارية مؤهلة وفتية، فمن الصعب تصور بقاء المناصب القيادية في جهازنا الحكومي من غير تجديد لعقود عدة! الاقتصاد المعاصر في حاجة إلى عقول شابة تفهم طبيعته المتغيرة، كفاءات نمنحها الثقة ونحمّلها المسؤولية، ونحيطها بأجهزة رقابية ومؤسسات تشريعية.
وبجانب حيوية الشباب، يحتاج جهازنا الحكومي إلى تحسين وتطوير هيكل المؤسسات المسيّرة لأعماله، وكذلك الأنظمة الحاكمة لإجراءاته. وفي هذا الصدد، نحن في حاجة إلى التخفيف من المركزية الشديدة في طريقة العمل الحكومي. فمن طبيعة البيروقراطية الحكومية طول الإجراءات وبطء اتخاذ القرارات. وقد اتضح لنا أن الأحداث والتطورات الاقتصادية تسبق غالبا القرارات والسياسات الحكومية بسبب هذه المركزية. ربما كانت المركزية مناسبة لظروف الماضي، لكنها لم تعد كذلك بالنسبة إلى الحاضر. أما ما يتعلق بالأنظمة، فعلى الرغم من أن المراقبين قد لاحظوا محاولات لتطويرها في السنوات الأخيرة، إلا أنها ما زالت دون الطموحات، وهي تحتاج إلى قوة دفع مستمرة.
تبحث الدول عادة، عند تخطيط برامج التنمية واختيار استراتيجياتها الحاسمة، عن المزايا النسبية التي يوفرها لها اقتصادها، ثم تعمل جاهدة على استغلالها. وسيعتمد الحكم الصحيح على برامجنا التنموية في نهاية المطاف، على مدى قدرتها في تحسين مستوى الدخل الفردي الحقيقي وإشاعة الرخاء الاجتماعي.
ولن ننجح في وضع اقتصادنا على الطريق السليم دون رؤية واضحة لما نرغب أن نكون عليه مستقبلا، ثم دعم ذلك بتطوير مؤسساتنا والقضاء على الفساد بجميع أشكاله، والتركيز على رفع مستوى إنتاجية المواطنين من خلال التعليم النوعي الرفيع والتدريب المتجدد والمستمر، ثم تبني الاستثمارات النافعة المولدة لفرص العمل أمام فتية البلاد وفتياتها من الباحثين عن مصادر رزق، حيث تحقق لهم الاستقرار وتحولهم إلى قوى منتجة وتبعدهم عن الفراغ القاتل والإحباط المدمر، الذي قد يجعلهم عرضة للأفكار المتطرفة. وكما أننا في حاجة إلى تشجيع انتشار المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي تضمن توسيع مساهمة الطبقة المتوسطة، التي تعد قوام أي مجتمع وتؤدي فيه دورا حاسما في ديمومة وحيوية الاقتصاد الوطني. هذه الطبقة التي بتنا نخشى تآكلها وتراجعها.
الأمم الحية تتخذ من التحديات والصعوبات أسبابا قوية لبث حيوية جديدة في حياتها. نحن أمام مفترق طرق، والفرص لا تتكرر، وما زالت أمامنا فرص للنهوض ببلدنا. وعلينا قبول التغيير ومجاراته وتسريع خطى الإصلاح. والخيار في أيدينا، والتاريخ ينتظرنا ليحكم لنا أو علينا.