العروبة شيء .. والشعوبية شيء آخر
تشدني الأطروحات المتسمة بالرصانة خصوصا في القضايا الخلافية الشائكة، والجرأة في عرض الأفكار والآراء والمواقف حتى وهي تتعارض مع ما هو سائد، ومن ذلك ما سطره قلم الأستاذ أنس زاهد الكاتب في جريدة ''المدينة'' يوم الخميس الماضي بعنوان ''نعم .. أنا قومي''.
تعرضت العروبة دوما للتشويه من ناحية، ولعدم فهم من ناحية أخرى، ومن هذا التشويه ربطها بالشعوبية والعرقية والعنصرية، وهذا غير صحيح ويجافي حقيقتها، فعروبتنا لها صفات ثقافية وحضارية تتجاوز فيها تلك الأفكار المنغلقة على نفسها وذاتها، التي تلفظ غيرها، وأكبر دليل على ذلك أنها استوعبت واحتوت أقليات عرقية ودينية، على اعتبار أن الإسلام دين العروبة، فاندمجت في الأمة وانصهرت فيها ثقافيا وحضاريا بما جعلها جزءا منها.
من الإجحاف الحكم على عروبتنا من تجارب فاشلة، أو مقارنتها بأفكار عنصرية وشعوبية، فهي أكبر وأوسع مضامين واستيعابا وتسامحا من فكرة حزبية متشنجة مثلا، ومن الظلم لها وللأمة تصنيفها بالشعوبية والعنصرية العرقية، فكيف تكون كذلك وهي القومية الوحيدة التي شرعت أبواب الانتماء إليها ثقافيا وحضاريا ودون تمييز عرقي وديني، وشاهد ذلك أن جملة من أهم رموز الأمة العربية فقها وعلما وأدبا هم من عرق غير عربي وبعضهم من دين غير الإسلام، وهو ما ينفي عن القومية العربية صفات سيئة أثبت التاريخ أنها لا تليق بها، والقوميات الموصوفة بالعنصرية العرقية ليست حجة عليها، لأن العروبة تميزت بعدم العنصرية العرقية، بل استوعبت عرقيات أخرى فانصهرت فيها فيما يعرف بالعرب العاربة والعرب المستعربة دونما تمييز بينهما.
على خلفية ما نعيشه اليوم من تراجع وتجرؤ حتى أصغر الأمم علينا، لا بد أن ندرك أن قدر هذه الأمة سابقا وحاضرا ولاحقا مرتبط ارتباطا وثيقا برابطها القومي ثقافة وحضارة، فكلما ضعفت الرابطة القومية بين العرب، استقوى عليها الغير وطمع فيها كما هو ماثل في أيامنا هذه، وكلما قوى هذا الرابط، أصبح للأمة هيبة وقوة ومنعة. ولنعد لما قبل تسعينيات القرن الماضي ولنقارن كيف كنا حين كانت لنا كلمة واحدة وموقف واحد، في حده الأدنى على الأقل، وكيف أصبحنا عندما تفرقت كلمتنا وانفرط عقدنا، وقدمنا مصالح قطرية على المصالح القومية في تأكيد لقول شاعرنا:
تأبى الرماح إن اجتمعت تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
وخير شاهد على ذلك كيف بتنا نتهرب من مسؤوليتنا وأمانتنا حيال قضية بعدها الديني أكبر من بعدها القومي وهي قضية فلسطين وقدسها الشريف، وهو ما عبر عنه الشمالي الرائع الأستاذ محمد الوطبان في مقالته ليوم السبت الماضي في ''ذهب الكلام'' وليس فقط فضته.
لقد كان ولا يزال لتراجع الترابط القومي العربي آثار سلبية وخطيرة على الأمن القومي العربي في بعده القطري، ونتيجة لهذا التراجع نشأت المشكلات العرقية حين تشجعت أعراق أو شجعت للخروج على مظلة العروبة الجامعة ثقافة وحضارة، وخطورة ذلك في أنه المدخل لتفتيت عديد من الدول العربية لدويلات عرقية ومذهبية، الذي هو ركن أساسي من أركان المشروع الصهيوني.
لقد أريد تشويه مفهوم القومية العربية عن قصد لمواجهة فكرة الوحدة العربية القائمة عليها، وحتى الوحدة استغلت تجاربها الفاشلة والمنقوصة والعشوائية لمحاربة كل القيمة القومية من جذورها، وعن غير قصد، ربما، حين وضعت على نقيض مع الإسلام، مع أنه لا تناقض ولا تعارض بين العروبة والإسلام، فالإسلام انتشر بالرايات العربية، وشاع وتسيد مساحة واسعة من العالم بالثقافة العربية أي اللغة العربية، التي هي لغة القرآن الكريم، فكيف تكون العروبة متعارضة مع الإسلام ..؟!!
اختصاراً للقول لننظر إلى الجوانب المضيئة في العروبة وقوميتها، وهو النموذج السعودي الذي حقق أبرز مقومات القومية وهي الوحدة، وطبق أهم مكونات الأمة وهي الشريعة الإسلامية في تناغم إيجابي ومشرق يقدم المثال النقي لتكامل القومية الإيجابية مع الالتزام بالشريعة الدينية معاً.