إلى الشرق .. دُرْ .. !

للتحولات التاريخية في مسار البشرية آثار عميقة، فهي تغير خريطة المشهد العالمي وتنذر بمرحلة جديدة تصعد فيها قوى وتتراجع أخرى وتختفي ثالثة. ولأن هذه التحولات تحدث بالتدريج، حيث خلال عقد أو عقدين من الزمان ـــ وربما أحيانا أكثر ـــ حتى تتضح معالمها، فإن عامة الناس لا يلحظون بداياتها ولا يتصورون مآلاتها. والناظر إلى فترة العقدين الماضية يدرك كم هي مرحلة مهمة من مراحل التحول التاريخي في تاريخ البشرية، ففيها دخل العالم حقبة ثورة الاتصالات بكل ما ولدته من تغيرات عميقة في حياة الناس وما أنبتته من أجيال لها عادات وطرائق استهلاك جديدة، وما أحدثته من تغيرات في عدد ونوع الأنشطة التجارية والفرص الوظيفية التي ترتبت على اختراع الأقمار الصناعية وذيوع البث التلفزيوني الفضائي، وتوسع استخدام شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وتنوع طرق الاتصال عبر الهواتف المتنقلة.
بيد أن الأكثر أهمية في تغيرات المشهد العالمي هو دخولنا فيما يمكن تسميته عصر الشرق! حيث ارتقت مكانته السياسة وبدت طلائع ريادته الاقتصادية، وهي ريادة ليست جديدة على الشرق فقد كان يملك زمامها إلى ما قبل ثلاثة قرون! والحقيقة أن معدل النمو الاقتصادي المتسارع والكاسح في الشرق بقيادة الصين والهند وبقية النمور الآسيوية، التي يتوقع أن تبلغ عنفوانها في عام 2050م، ستعيد مجدا غابرا ساد في الشرق لنحو ألفي عام!
ما يهمنا من هذه التحولات هو ضرورة أن نفهم مسارات التاريخ، ونعرف حقيقة عصرنا الجديد، ونتخلى عن المفاهيم والتصورات المسبقة التي اكتسبناها تأثرا بفترة سيادة الحضارة الغربية. نعم لن يكون هذا سهلا على البعض؛ لأنه يتطلب تغيرا في أدوات ووسائل التأثير التي كانت بيد معظم العقول الغربية المؤثرة في العالم فكريا، وسياسيا، واقتصاديا، وإعلاميا. هذه الجحافل من العقول الموجهة كان لها تأثير هائل على الخطاب العالمي. ألم ترَ كم عانى ويعاني عالمنا من توجهات وسيطرة هذه الآلة الغربية الجبارة خلال القرنين الأخيرين بسبب تصورات مشوهة ترسخت في عقولها؛ الأمر الذي حدا بهم لتبني مفاهيم مغلوطة أحيانا!
في مقال نشر في صحيفة "ذي تايمز أوف انديا" يشير كيشوري محبوباني عميد كلية لي كوان يو للتخطيط والسياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، إلى ثلاثة أمثلة عن تصورات غربية مشوهة بشأن الصين على سبيل المثال!
أولها أن المفكرين الغربيين يعتقدون أن الصين ستنضم إلى المشروع الغربي الأكبر! لكن من الغرور التاريخي الاعتقاد أن الحضارة الغربية يمكنها احتواء الحضارة الصينية. فالصين لها ثقافة متفردة وقوية وهي لن تنضم إلى المشروع الغربي، لكنها بالطبع لن ترفض كل مفردات الحضارة الغربية. ويعتقد الأستاذ محبوباني أن الصين (وغيرها من الدول الآسيوية الرائدة) تصعد الآن؛ لأنها استوعبت أعمدة الحضارة الغربية السبع! وهي: اقتصاد السوق الحر، التمكن من التقنية، الريادة في العلوم، حكم النخب المؤهلة، الواقعية (البراجماتية)، ثقافة السلام (خاصة بعد الحربين العالميتين)، وسيادة القانون. ومع ذلك، فإن الصين ـــ وآسيا عامة ـــ تتطور ويجري تحديثها بعيدا عن النزعة الغربية، وهو تحول جذري عن التاريخ المعاصر. ففي العقلية الغربية تعني كلمة التحديث التغريب بمعنى السير على خطى الغرب، ولا يتخيل العقل الغربي افتراق التحديث عن التغريب، فهم يفهمون أن ليس للتحديث سوى طريق واحد هو طريق الغرب! وهذه مغالطة، بل أكذوبة كبرى! وبناءً على ذلك سيشهد العالم تحولا من عالم تسيطر عليه الثقافة الغربية إلى آخر يشهد ثقافات متعددة ناجحة.
وثاني هذه الأمثلة، الاعتقاد الغربي الذي تعاظم أثناء الأزمة المالية العالمية في العامين الماضيين ورددته وسائل الإعلام الغربية أن النظام الصيني سينهار إن لم يأخذ بالنموذج الغربي. ولن يطيح شعب بنظام هو الأسرع نموا خلال الـ 30 عاما الماضية!
أما ثالث التصورات الغربية الخاطئة، فهو افتراضهم أن الصين لن تتقدم وتصعد دون أن تنخرط في حروب إقليمية، بناءً على تجربة الحروب الأوروبية في القرن الـ 19. وقد كان أكبر اختبار لعدم صحة هذا الافتراض هو نجاح الشرق في تحمل صدمة الأزمة الاقتصادية الأعظم في التاريخ المعاصر. ومع أن آسيا مليئة بالخصوم المتنافسين المستعدين للصراع (الصين والهند مثلا) فإن هذه الأزمة لم ولن تدفعهم إلى الانخراط في حروب يعرفون أن الانخراط فيها لا طائل وراءه وسيضيع منهم أهم فرصة لمواصلة النمو وإعادة مجدهم الغابر.
سيكون العقد القادم مختلفا عن العقد الماضي، وسيشهد العالم خلال العقود الثلاثة التالية تغيرات مستمرة، أهمها اتساع الطبقة المتوسطة في آسيا؛ الأمر الذي سيزيد من قوة الشرق اقتصاديا وسياسيا. هذه التحولات توفر لمنطقتنا فرصة هائلة، لكن تحديات كبيرة جدا في الوقت ذاته، فهل نحن واعون ومستعدون أم سنكون ضحايا المتميزين وأضحوكة المتنافسين؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي