الدرع الصاروخي .. الامتحان الصعب للسياسة التركية

تواجه تركيا حاليا موقفا لا تحسد عليه فيما يتعلق بمستقبل علاقتها بالغرب ودول الجوار وعلى رأسها إيران وروسيا، فمشروع الحلف الأطلسي الهادف إلى بناء الدرع الصاروخي تكون تركيا جزءا منه يتطلب من أنقرة اتخاذ قرارات صعبة لحسم خيارها للمشاركة فيه، ما من شأنه أن يؤثر في علاقاتها بدول الجوار إيران وروسيا في حالة القبول، وعلاقاتها بدول الغرب (حلف شمال الأطلسي) في حالة الرفض!
فبناء الدرع الصاروخي أساسا كما هو رائج بين أوساط المحللين يستهدف كلا من إيران وروسيا اللتين تشكلان الهدف الأساسي من وراء وجود هذا الدرع الصاروخي الذي ترى الولايات المتحدة أن وجوده يشكل درعا لصد أي هجوم صاروخي محتمل من إيران، ومن المعروف أن هذا المشروع قد قوبل برفض قوي من روسيا التي ترى أنه قد يشكل تهديدا لترسانتها النووية وتهديدا للأمن القومي الروسي، وبالتالي فإن من ضمن استراتيجيات الولايات المتحدة، إضافة إلى الحد من الخطر الصاروخي الإيراني كذلك تهديد العمق الاستراتيجي الروسي عبر بناء هذه المنظومة.
ومع بدء العد العكسي لاجتماع قادة الناتو في لشبونة يومي 19 و20 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل أصبحت تركيا مطالبة بحسم موقفها، حيث إن "الناتو" ممثلا في الأمين العام أندرسن فوغ راسموسن ينتظر من أنقرة قرارا نهائيا بشأن المشاركة في نشر الدرع الصاروخية على الأراضي التركية في اجتماع لشبونة. وتواجه أنقرة مشكلة حقيقية في حال مشاركتها في درع الناتو لأن ذلك يضر بعلاقاتها مع موسكو وطهران التي تطورت وزادت وتيرة التعاون بينهما بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وبحسب تصريحات سينان أوغان مدير مركز أبحاث توركسام في أنقرة يؤكد أن تركيا تواجه موقفا صعبا لأنها من جهة تنتهج سياسة إبقاء صداقتها مع دول الجوار وتعمد إلى تصفير مشكلاتها، ومن جهة أخرى، فإنها تتجه لنشر أسلحة تستهدف أولئك الأصدقاء، بما يسهم من زيادة درجة الهواجس الأمنية ويدخلها في دائرة الشك.
وشكلت قضية نشر الدرع الصاروخي موضوع بحث بين وزيري الدفاع والخارجية التركيين مع نظيريهما الأمريكيين الخميس الماضي في العاصمة البلجيكية على هامش اجتماع للناتو، وبحسب تقارير صحافية تركية أشارت إلى أن المسؤولين التركيين بدوَا "متحفظين" بشأن المشاركة في المشروع. ونفى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان تعرض أنقرة لأية ضغوط بشأن الدرع الصاروخية ولم تتلق أي طلب وليس هناك ما يضعها أمام الأمر الواقع، ونقلت وسائل إعلام تركية عن وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس قوله إن واشنطن لم تمارس أي ضغوط على أنقرة لدفعها إلى المشاركة في المشروع وإن الطرفين يواصلان بحث الموضوع.
وأثارت موافقة تركيا أخيرا على نشر الدرع الصاروخي على أراضيها في إطار المنظومة الأمريكية لنشر صواريخ رادعة في شرق أوروبا تحت مظلة حلف الناتو لحمايتها من التهديدات المحتملة خاصة من إيران عديدا من التساؤلات حول اندماج تركيا في مظلة برنامج الدرع الصاروخي الأمريكي، ومن ثم اندماجها تحت المظلة السياسية والأمنية الغربية. فالقرار التركي بالموافقة على نشر الدرع الصاروخي على الأراضي التركية جاء خلال اجتماع عقده الرئيس التركي عبد الله غول قبل أيام مع كبار القادة السياسيين والعسكريين الأتراك والذي تم خلاله الإعلان عن استعداد تركيا على نشر جزء من هذه الدرع على أراضيها بحكم موقعها بين أوروبا والشرق الأوسط على أن تتم حمايتها من التهديدات المحتملة خاصة من جانب إيران في حالة عدم نشر صواريخ دفاعية على أراضيها ونشرها على أراضي أية دولة أوروبية أخرى. واللافت للنظر أن هذا القرار جاء بعد أسابيع من زيارة قام بها نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى أنقرة والتي نقل فيها الرغبة الأمريكية في بناء درع صاروخي في تركيا. مصادر تركية كشفت النقاب عن أن المحادثات الصاروخية والتي جرت بسرية تامة بين واشنطن وأنقرة أخيرا تهدف إلى بناء منظومة رادار (إكس باند) X-Band في تركيا لتكون بمثابة القاعدة الثالثة للدرع الصاروخي في أوروبا. ونقلت المصادر عن دبلوماسيين قولهم إن الخطة الأمريكية النهائية تقوم على بناء منظومة رادار X-Band في تركيا قريبة من الحدود الإيرانية بينما يتم نصب صواريخ دفاعية في منطقة القوقاز على أن يكون مقرها أذربيجان في أقوى الاحتمالات. وقالت إن الولايات المتحدة تسعى من وراء بناء هذه المنظومة في تركيا إلى رصد الصواريخ البالستية الإيرانية والتصدي لها، مشيرة إلى أن X-Band قادر على التقاط ورصد أي شيء يطير في الهواء مهما كان صغيرا كما يتصدى لأي صواريخ تأتي من جهة معادية على صغر حجمها.
ومنظومة X-Band توجد في موقع أرضي، وهو رادار طراز FPQ-14 متعدد المهام يقوم باكتشاف وتتبع الهدف المعادي، وتمييز الرأس المعادي الحقيقي من الأهداف المخادعة المصاحبة له، وتوجيه مركبة القتل نحو الرأس الصاروخي المعادي.
فالتصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم البنتاجون جيوف موريل الشهر الماضي وجدت مساحة على صفحات الجرائد التركية لكنها مساحة صغيرة جدا لم يتم التركيز عليها كما يجب مع أنها كانت بالغة الأهمية.. فهي تكشف بوضوح عن النية الأمريكية في إقحام تركيا بنظام الدرع الصاروخي الذي سيتم استخدامه ضد إيران. جيوف موريل وردا على سؤال صحافي قال باقتضاب إن وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس تحدث في هذا الأمر مع المسؤولين الأتراك خلال زيارته لتركيا بل إن هذا الموضوع كان قيد البحث ليس فقط مع الدوائر العسكرية التركية بل وأيضا مع الرئيس عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. جيوف موريل حاول أن يهمش الموضوع بقوله إنه لم يتم التحدث به من كل جوانبه في أوقات سابقة لأن الجيش التركي كان مشغولا آنذاك بالتوتر الأمني شمال العراق متهربا بذلك من الدخول في التفاصيل.
أما على الجانب التركي، وطبقا لبعض المصادر الرسمية، فإن أنقرة تحاول أيضا أن تبتعد قدر الإمكان عن الحديث في هذا الموضوع وكأنها تريد تهميشه أو التعتيم عليه.. لكن من الواضح أن الإدارة الأمريكية تولي أهمية خاصة لهذا الموضوع بيد أنها أصبحت على وشك الاتفاق مع بولونيا وتشيكوسلوفاكيا في هذا الأمر.. كما أن رئيس الوكالة الأمريكية للدفاعات المضادة للصواريخ الجنرال هنري أوبيرنج كان قد تحدث في تصريح أدلى به في وقت سابق عن فوائد نصب رادار متنقل للدفاعات المضادة للصواريخ من طراز X-Bantlı في تركيا.
ويمكن القول إن مجرد تأسيس مثل هذه المنظومة في تركيا تكفي وحدها على تأليب إيران ضد تركيا، خاصة أن طهران وعلى مدار سنوات مضت كانت داعما رئيسا لحزب العمال الكردستاني.. هذا فضلا عن أن تنصيب صواريخ في أماكن مختلفة من تركيا، سيشعل فتيل توتر بين الطرفين لا يمكن لأحد أن يتكهن إلى أي حد قد تصل معه إلى قطع العلاقات.
ومن المعروف أن تركيا وإيران لم يخوضا حربا منذ 369 عاما منذ الاتفاقية التي وقعتها الإمبراطورية العثمانية مع "قصر الشرين" عام 1639 لإنهاء الحرب بين تركيا وإيران، وهي الاتفاقية التي رسمت حدود المثلث التركي- الإيراني - العراقي لغاية اليوم. كما أن أي خلافات كانت تنشب بين البلدين كانت تحل دوما على أساس هذه الاتفاقية. وطبقا لأتاتورك، فإن الأتراك والإيرانيين هم إخوة لكنهم تفرقوا بسبب الحروب المذهبية، لهذا كان يولي أهمية كبيرة للعلاقات مع إيران ويحفز على التعاون معها. إلا أن المسؤولين الأمريكيين بدأوا يتوافدون أخيرا على تركيا من أجل إيران.. من الرئيس الثاني لهيئة الأركان الأمريكية جيمس كارتوايت مرورا بوزير العدل مايكل موكاييس ووزير الدفاع روبرت جيتس إلى آخر زيارة قام بها نائب رئيس الأمريكي جو بايدن وموضوع المباحثات الأول هو إنشاء منظومة رادار X–BAND ضمن شبكات حماية مكونة من أنظمة صواريخ أرضية مستندة إلى نقاط ارتكاز جغرافية عدة قادرة على إسقاط أي صاروخ باليستي عابر للقارات يستهدف الأراضي الأمريكية أو أماكن وجود القوات والمصالح الأمريكية في الدوائر الإقليمية المختلفة (شرق آسيا، الشرق الأوسط، منطقة الخليج). هذا الرادار قادر على إسقاط كل الصواريخ الإيرانية مهما كانت صغيرة قبل الوصول إلى هدفها، ولهذا فإن الولايات المتحدة تفكر ببناء قاعدة جديدة لها في جنوب شرق تركيا ضد إيران.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا تصر الولايات المتحدة على بناء هذه المنظومة في تركيا مع أن العراق أنسب كثيرا بالنسبة لها.. المعروف أن منظومة X–BAND تتميز بقدرتها على رصد الصواريخ من على بعد أربعة آلاف كيلومتر في المقابل هي تحتاج إلى مسافة ألفي كيلومتر من أجل رصد الصواريخ ذات الإشارات الضعيفة. وعلى هذا الأساس، يعتبر العراق هو المكان الأفضل بالنسبة للولايات المتحدة للسيطرة على الصواريخ الإيرانية بحسب ما يراه المحللون العسكريون، وبما أن دول أخرى مثل تركيا وأذربيجان تبعد عن بعض المواقع الإيرانية بـ 2500 كيلومتر. يعني، من الناحية المنطقية، إن مدينة "البصرة" العراقية القريبة من كل الاتجاهات الإيرانية والتي تبعد نحو 1600 كيلومتر عن أبعد مدينة إيرانية تعد الأنسب لتحتوي هذه المنظومة كما ستكون النشاطات فيها أكثر فعالية من تركيا.
إذا ورغم هذه الحقيقة، فإن الإصرار الأمريكي على إنشاء المنظومة بتركيا بدلا من العراق لا يعني إلا أمرا واحدا فقط وهو أنها تريد إقحام تركيا في هذه المنظومة وإحداث شرخ في العلاقات التركية ـ الإيرانية والروسية. وباختصار، واشنطن لا تخفي رغبتها في رؤية تركيا بهذا المشروع الصاروخي. وفي محاولة تركية لطمأنة إيران والتشديد على أهمية العلاقة بينهما أعلنت مصادر تركية أن مجلس الأمن القومي التركي بحث لأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة في إزالة إيران من قائمة الدول المعادية والتي تشمل أيضا روسيا واليونان والعراق. وأكدت المصادر أن موقف أنقرة بشأن مشروع الدرع الصاروخية لا يزال قيد الدراسة، وأن تركيا قد تقبل بهذا المشروع بشرط أن يشمل جميع دول "الناتو" وألا يبدو وكأنه موجه ضد طهران فهل تدرك أنقرة خطورة الموقف الذي يعترض مستقبل علاقتها في دول الجوار وخصوصا العلاقة مع إيران؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي