مسؤولو الصمت ومسؤولو الضوء
من عرف أو سمع عن الدكتور محمد يونس ــ المصرفي البنجالي والخبير الاقتصادي وصاحب فكرة ومشروع بنك الفقراء ــ أو العالم المصري الأمريكي الجنسية الدكتور أحمد زويل ــ مبتكر نظام تصوير سريع للغاية يعمل باستخدام الليزر له القدرة على رصد حركة الجزيئات في الكيمياء ــ قبل حصولهما على جائزة نوبل العالمية؟ أجزم بأنهم قلة قليلة حتى من ذوي الاختصاص, لكن بعد حصولهما على هذه الجائزة العالمية, التي تقابل ''الأوسكار'' في الفن السينمائي من حيث الاشتهار, باتا على كل شفة ولسان, وتسابق الجميع على استضافتهما والاستفادة من علمهما. بالطبع لم يحقق العالمان الجائزة ولا الشهرة هكذا وبضربة حظ، كما يحدث في كرة القدم حين يركل لاعب الكرة ويسجل منها هدفا يوصف بالأسطوري، فينتقل فجأة من الظل إلى الشهرة الواسعة, بل سبق الجائزة والشهرة عمل طويل ودؤوب وشاق بصمت وبعيد عن الإعلام, فجاءت جائزة نوبل والشهرة العلمية الواسعة كثمرة لجهد وإنجاز حقيقيين.
من يعملون قبل أن يتكلموا، هم من يضعون الحصان في مكانه الصحيح أمام العربة لتنطلق وتسير, ومن يتكلمون أكثر مما ينجزون يفعلون العكس بوضع العربة أمام الحصان فلا تسمع إلا جلبة وضجيجا دون حركة وتقدم إلى الأمام. وهذا بالضبط هو حال بعض من يكلفون بمسؤولية, فتجدهم يتكلمون ويجعجعون ويصرفون جل الوقت في البروز الإعلامي بكثرة كلامهم عن الإنجازات المتوقعة وتصريحات ووعود ''سوف'', لكن دون نتائج وإنجاز, أي أنهم يتحدثون أكثر بكثير مما ينجزون فعليا.
في مقالة له أخيرا، انتقد خالد السلمان في عموده اليومي في جريدة ''عكاظ '' من سماهم ''وزراء الصمت'', وعنى بهم أولئك المسؤولين الذين يتهربون من الإجابة عن أسئلة الصحافة, وهؤلاء الصامتون, وبعضهم لا نسمع بأسمائهم إلا مرتين, مرة حين يعينون والأخرى حين يعفون, ليس بالضرورة أن صمتهم هو مثل صمت حاملي جائزة نوبل, بل صمت يمكن تفسيره على محملين, الأول أن ليس لديهم ما يقولونه, ولهذا فهم يطبقون قاعدة ''إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب '', والآخر إدراكهم أن إطلاق الكلام على عواهنه بتقديم إنجازات نظرية لم يعد من الممكن أن يمر مرور الكرام في أجواء نقاش وحوار ومساحة واسعة من حرية الرأي والنقد البناء, ولذا فهم يطبقون حكمة ''الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح''.
المشكلة ليست محصورة في الصامتين, بل أيضا في عكسهم اللاهثين خلف الأضواء والوجود الإعلامي بمناسبة وبغير مناسبة, فإن كان هناك مسؤولون صامتون, فهناك مسؤولون حفظنا أشكالهم وملامحهم حفظا, ونستطيع إحصاء عدد مشالحهم وألوانها من كثرة ظهورهم الإعلامي, فلا يمر يوم إلا وتجد لهم تصريحا أو خبرا أو لقاء أو مشاركة في ندوة أو فعالية ما, ما يجعلك تشعر بأن مفهوم العمل والإنتاجية لديهم محصور في حجم وجودهم الإعلامي, ولا بأس في أن يظهر المسؤول إعلاميا, بل هذا مطلوب, لكن كوسيلة وليس غاية في حد ذاته, وإلا أصبح مجرد علاقات عامة.
من كثر كلامه قل عمله, ومن كثر ظهوره الإعلامي قلت إنتاجيته, وليس خافيا أن بعض المسؤولين يرون أن هذا الوجود الإعلامي المكثف, يصرف النظر عن أوجه القصور والنقص والسلبيات في إدارته. وتستغرب حقا حجم الإنجازات والنجاحات التي تعرض وتدعم بالإحصائيات والأرقام. وحين تقارن ذلك بواقع الحال لا تجد فيما يقال إلا القليل من الحقيقة, وليس لهذا إلا معنى واحد, هو أن مثل هذه ''الإنجازات'' و''النجاحات'' صممت للعرض الإعلامي أكثر منه التطبيق العملي, وإلا لما بتنا نعاني مشكلات.