من يقتل المسيحيين في العراق؟
الدفاع عن العروبة والإسلام، كما أشرت مرارا هو غاية هذا العمود. والرسائل الأسبوعية التي تظهر فيه صار لها صدى كبير والدليل ما أتلقاه من رسائل وكذلك مدى انتشار ما نكتبه على صفحات الإنترنت.
وعندما ندافع عن الإسلام في معظم كتاباتنا إن بالإنكليزية أو العربية فإننا لا ننطلق من الفراغ. نظرتنا إلى الإسلام ليس معناها حصر أفقنا على كل من ينطق الشهادة ويشهر إسلامه. الإسلام قيم وأخلاق وسلوك وتصرف وإنسانية وتسامح ومحبة وتعايش. بين كنفيه عاشت ديانات وقوميات ولغات وحضارات وثقافات مختلفة وترعرعت وازدهرت. ومن هذا المنطلق سأقدم تحليلا نقديا للجريمة الشنعاء التي وقعت في كنيسة في بغداد يوم الأحد الماضي ، التي تناقلتها الأخبار ودانها العالم أجمع.
الإدانة والشجب والرفض صارت من الأمور المألوفة للمأساوي والظلم الذي يقع في أمصار العرب والمسلمين. ولأن الجريمة الشنعاء حدثت في بغداد، حاضرة العروبة والإسلام، فإن ضحاياها، رغم كونهم يدينون بالمسيحية، هم العرب والمسلمون في صورة عامة. دفع المسيحيون دما طاهرا زكيا وعددا هائلا من الأرواح البريئة ـــ نسبة إلى عددهم القليل في العراق ـــ ودفع العرب والمسلمون ثمنا باهظا أيضا لأن العالم دان مرتكبيها من "بعض المسلحين" وعقد عزمه من جديد على تجييش الإعلام والعساكر والمخابرات لمحاربتهم. وما أسهل الإدانة والشجب والرفض. وأيسر أمر في هذا الدنيا اليوم هو اتهام العرب والمسلمين بكل شيء سيئ وتبرئة مسببي المآسي التي تحدث في العراق وفلسطين وأفغانستان رغم الدليل القاطع على جرمهم.
المشهد العراقي ـــ وأنا على دراية كبيرة به ـــ مشهد متشابك معقد من الصعب تصديق ما يصدر من أحكام من محتليه الغزاة وحكامه الحاليين. المحتلون الغزاة أشرار لأن وجودهم في العراق قائم على صناعة الكذب والنفاق. والحكام الحاليون دهاة في صناعة الشر ورميه على أكتاف الآخرين. ونجح الاثنان نجاحا باهرا في تبرئة نفسيهما ورمي مسؤولية الجريمة الكبرى التي يقترفانها ومنها جريمة يوم الأحد الماضي على الآخرين.
وهكذا وببساطة أدخلوا في عقولنا أنهم أبرياء وأن سبب كل ما يحدث هو تيار إسلامي سلفي متطرف يتبنى القتل وتكفير الآخرين من الذين لا يتفقون مع فكره الديني الرجعي. والعالم أجمع تقريبا أخذ بهذه النظرية ويعتبرها الآن من المسلمات دون تمحيص وإثبات وتحليل. وهكذا خرجوا علينا ببيان نسبوه إلى هذا التيار. ولكن هل توقفنا عند قراءة البيان؟ البيان ربط بين مسيحيي العراق ومسيحيي مصر في لافتة لا يتقنها إلا دهاة المخابرات الإسرائيلية والأمريكية، التي تحاول دائما ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. وهذا الربط خطير ودلالاته عميقة تحتاج إلى صناعة وفبركة تصل إلى صناعة الكذب والنفاق التي تشتهر بهما أجهزة هذه المخابرات. أنسينا كيف جعلونا نصدق أن النظام العراقي السابق كان يملك ترسانة من أسلحة الدمار الشامل وأنه على علاقة مباشرة بتنظيم القاعدة؟ ألم تكشف الأيام كذبهم ونفاقهم؟ فهل يعقل أن نصدق بيانهم عن الجريمة في كنيسة بغداد؟
ويا حسرتاه علينا نحن المتلقين لأننا أصبحنا نتقبل الكذب والنفاق على علاته لا بل نشتريه وندفع أثمانه صاغرين دون أن ندري أننا أصبحنا بمثابة عبيد نتلقى الأوامر وننفذ. حتى حق المناقشة سلبوه منا. وإلا كيف باستطاعتنا تصديق ما يصدر عن هؤلاء المنافقين والكذابين؟ ألم نر بأم أعيننا شرائط فيديو توثق جرائمهم النكراء؟ ألم نقرأ ما كانوا يكتبونه بخط أيديهم عن الجرائم التي اقترفوها ويقترفونها؟ ألم يأت هؤلاء المنافقون بجيشهم الجرار لغزو العراق وتدميره دون سبب؟ ألم يستقدم هؤلاء المنافقون جيشا جرارا آخر من المرتزقة ـــ جلهم مجرمون وقتلة من شتى أنحاء العالم ـــ وأطلقوا لهم العنان للفتك والبطش والقتل والتدمير دون محاسبة؟ وهكذا صار العراق مرتعا للإرهاب المنظم. وبدأت التصفيات، وكان ضحيتها الأولى علماء الذرة والفيزياء العراقيون. من له مصلحة في قتلهم؟
والحكام وما أدراك ما الحكام. سآخذ ما يعتبره العالم أفضل نموذج بينهم. والله شاهد على ما أقول. في منتصف التسعينيات جرت معارك حامية الوطيس بين الفئتين الكرديتين اللتين تحكمان شمالي العراق حاليا. وكنت عندئذ مراسلا لوكالة رويترز التي كلفتني بمتابعة وتغطية القتال. وهذا موثق. كان الطرفان يفتكان الواحد بالآخر مثل الوحوش وقتلوا من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء من الأكراد حسب إحصائية الأمم المتحدة أكثر من 3500 شخص. وفي عام 1995 ضاقت الحيلة بأحد الأطراف فاستعان رسميا ـــ وهذا مثبت وموثق ـــ بالنظام العراقي السابق الذي أرسل خيرة قواته لمساعدته بالبطش ببني قومه من الأكراد من الطرف الآخر. وحدث ما حدث.
واليوم يقدم نفسه هذا الطرف على أنه حامي حمى المسيحيين العراقيين. وينسى العالم أنه واحد من الأسباب الرئيسية لمشاكلهم، حيث أرسل ميليشياته لاحتلال سهل الموصل الذي تتواجد فيه قرى وبلدات مسيحية وجزء من مدينة الموصل جاعلا من المنطقة المسيحية هذه خطا دفاعيا عن مناطقه. وقد دانت منظمات حقوق إنسان غربية تصرفاته هذه أشد الإدانة.
هل نستطيع الوثوق بما يقوله لنا الغزاة المنافقون والحكام المصلحيون مثل هؤلاء من الذين يديرون المشهد في العراق؟
وإلى اللقاء.