بريطانيا خائفة من سيطرة مردوخ على الإعلام!
حالة من الهلع بدأت تدب في أوصال المسؤولين عن صناعة الإعلام في بريطانيا العظمى خوفا من خطط البلدوزر روبرت مردوخ ـــ مالك نيوز كورب ـــ الذي ما من شك في أنه لا يألو جهدا في محاول مستميتة للهيمنة على الإعلام الدولي. وقد وصل الخوف حدا غير مسبوق بشكل دفع كبرى الصحف البريطانية إلى أن تطرح خلافاتها التاريخية جانبا، وتتحد في مواجهة تسونامي مردوخ وأطماعه في الهيمنة على الإعلام البريطاني.
وبالفعل نسّقت الشركات الإعلامية والنشر التي تقف خلف كل من الـ''ديلي تليجراف'' و''الديلي ميل'' اللتين تؤيدان المحافظين جنبا إلى جنب مع مالكي صحيفة الـ''جارديان'' وصحيفة ''الديلي ميرور'' التي تدعم حزب العمال في توجيه عريضة تطالب فيها هذه الصحف من فينس كيبل الذي يشعل منصب وزير التجارة والأعمال في الحكومة البريطانية الحالية حتى يمنع نيوز كوربوريشن، (وهي شركة خدمات ترفيهية متنوعة تعمل في ثمانية قطاعات منها: الأفلام الترفيهية والتلفزيون وبرامج شبكة الكابلات والبث المباشر من خلال الفضائيات والمجلات والجرائد ونشر الكتب وغيرها من الأنشطة) التي يمتكلها البليونير الأسترالي روبرت مردوخ من أن تنجح في عرضها البالغ ثمانية مليارات جنيه استرليني للسيطرة على محطة بي سكاي بي التي تعمل تحت اسم سكاي.
وحسبما ورد على موقع ميدل إيست أونلاين، فإن الجهات التي وقّعت على الرسالة اعترضت وحذرت من قيام إمبراطورية مردوخ الإعلامية الجمع بين وسائل إعلامية متعددة في خطوة من شأنها أن تدر عوائد مقدارها 7.5 مليار جنيه استرليني بالمقارنة بـ4.8 مليار جنيه استرليني لهيئة إذاعة ال بي بي سي. وحسب الرسالة أكد الموقعون على الاحتجاج التقاليد الصحفية التي أرساها ''فليت ستريت'' في المملكة المتحدة وفي العالم أجمع، وعلى حقيقة أنه ليس في وسع المجتمع البريطاني أن يتنازل عن اتجاهات قائمة وراسخة من أجل صناعة تجارية.
لكن تجب الإشارة إلى حقيقة أن مجموعة مردوخ الإعلامية التي تحمل اسم نيوز كورب ليست جديدة في العمل على الساحة الدولية والبريطانية على وجه التحديد، فهي تمتلك 39 في المائة من مجموعة بي سكاي بي التي احتفلت للتو بوصولها إلى عشرة ملايين مشترك، إضافة إلى أربع صحف كبرى في بريطانيا، هي (ذا صن، نيوز أوف ذا وورلد، ذا تايمز، وصنداي تايمز). لهذا السبب أخذت القضية ومنذ البداية منحا سياسيا وبخاصة أن هذه الصحف كانت تدعم وبقوة حملة حزب المحافظين ورئيس الوزراء ديفيد كاميرون في الحملة الانتخابية الأخيرة التي ساعدت فيها المحافظين على تشكيل حكومة، ويذكر أن روبرت مردوخ كان من أول الشخصيات التي تم استقبالها في مقر رئاسة الحكومة (التن دوان ستريت).
اللافت حقا هو أنه في حال تمكن روبرت مردوخ من عمل اختراق بهذا الشكل وتمت الصفقة الأكبر في تاريخ الإعلام البريطاني، فعندها ستكون مؤسسة نيوز كورب في موقع من يضع يده على قاعدة غير مسبوقة في الأسواق بصرف النظر عن نوعها على حسب مقولة تشارلي بيكيت مدير مجموعة بيكيت للأبحاث التابع لمعهد لندن للاقتصاد. وأضاف بيكيت أنه إن حدث هذا الأمر ''فقد يهدف إلى ربط عروض الاشتراك في مواقع الصحف على الإنترنت باشتراك التلفزيون''. هنا تجب الإشارة إلى أن هذا هو بالضبط ما يسعى إليه مردوخ؛ إذ يتفق مع سياسته الجديدة التي حولت في حزيران (يونيو) الماضي موقعي أكبر صحيفتين عنده ''وهما تايمز، وصنداي تايمز'' متوافرين مقابل اشتراك، إذ يعد أن الإبقاء على مجانية مصدر المعلومات على الإنترنت، هو ضرب من عدم فهم السوق، ويلحق ضررا كبيرا. وفي أكثر من مناسبة كشف مردوخ عن الطريقة التي يفكر فيها تجاه متصفحي خدمات الإنترنت، ويريد أن يصار إلى فرض رسوم على متصفحي الإنترنت.
وعلى نحو لافت يمكن الإشارة إلى أن الجبهة المضادة التي اتحدت ضد روبرت مردوخ هي قوية، ولا يمكن الاستهانة بها، وقد كتب ستيفان ويبستر على موقع شركة ''رو ستوري'' في واشنطن دي سي بأن الجبهة المضادة لمردوخ غير مسبوقة، لأنها ضمت عمالقة الإعلام البريطاني مثل: ال بي بي سي البريطانية، التي تأثرت كثيرا بسياسة سكاي، هذا إضافة إلى كل من ''ديلي تلجراف'' و''ديلي ميل'' و''ذا جارديان'' و''ديلي ميرور'' وكذلك ومحطة ''تشانل 4'' ومجموعة بريتش تليكوم للاتصالات، وأحد منافسي بي سكاي بي في مجالي التلفزيون المدفوع والإنترنت. ومصدر خشيتهم هو أن تتحول بي سكاي بي إلى آلة حرب تعمل على ابتلاع مجمل الأرباح التي تبلغ مليار يورو والمتوقعة اعتبارا من هذا العام، واعتبر المحتجون أن إتمام الصفقة إنما يهدد أهم قيمة إعلامية، وهي تعددية الإعلام، بمعنى أنها تهدد بسحق الأكثر ضعفا في ظروف اقتصادية صعبة جدا أصلا.
وأمام هذا الجهد الكبير الذي تبذله كبرى الصحف البريطانية لمنع سيطرة مردوخ على السوق البريطانية، فقد أشارت صحيفة ''فايننشيال تايمز'' في عددها الصادر في الـ18 من تشرين الثاني (نوفمبر) إلى أن ابن مردوخ المسؤول عن مجموعة نيوز كورب في أووربا جيمس مردوخ، كان قد وجه تحذيرا للسلطات البريطانية من عواقب رفض السماح لمجموعته من السيطرة على كامل حصة بي سكاي بي، ومن المعروف أن ''نيوز كورب'' تسيطر الآن على فقط 39 في المائة من المحطة لكن مردوخ يريد سيطرة تبلغ 100 في المائة. وأضاف جيمس مردوخ قائلا على الرغم من أنه لا يرى أن هناك مبررا للتدخل استنادا إلى حماية المصالح العامة أو الحفاظ على مبدأ التعددية، فهو يرى أن على حكومة ديفيد كاميرون أن تحدد خيارها. وجاء هذا التحذير للمرة الأولى منذ أن طلب وزير التجارة والأعمال البريطاني فينس كايبل قبل شهر من سلطة تنظيم الاتصالات المعروفة باسم أوفكوم لكي تدرس عرض مجموعة مردوخ الإعلامية لشراء ما تبقى من أسهم لمحطة بي سكاي بي. وقد طلب وزير التجارة والإعمال من أوفكوم أن تقدم تقريرها قبل نهاية الشهر المقبل حتى تتسنى له معرفة فيما إذا كان عليه أن يقرر أن يسلم الملف برمته إلى لجنة المنافسة البريطانية.
صحيح أن الحكومة تحاول تهدئة روع الخائفين من زحف إمبراطورية مردوخ الإعلامية، إلا أن طبول التحذير ما زالت تدق بشكل يكاد يكون يوميا، وبهذا الصدد كتب فاولر من صحيفة ''جارديان'' أن أي مقترح يسمح لشركة بحجم سكاي بأن تكون تحت سيطرة وملكية الشركة نفسها التي تمتلك أكبر صحف بريطانية ''ذي صن'' وأوسعها انتشارا هي مسألة تحدث قلقا عاما مشروعا في بريطانيا. والكثير من منتقدي الصفقة في حالة إتمامها لهم موقف سياسي، إضافة إلى الموقف التجاري من روبرت مردوخ الذي يتدخل في السياسة من خلال الإعلام. فقد حاول روبرت مردوخ من التأثير في سياسة الولايات المتحدة عن طريق دعمه للمحافظين، كما قام بالترويج ودعم حرب الولايات المتحدة على العراق. كما تقول محطة فوكس نيوز التابعة لمردوخ بتوظيف كل محافظ جمهوري ينظر له كمرشح محتمل في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2012.
والتركيز على قوة مردوخ السياسية يمكن لها أن تخلق ردة فعل قوية ضد مساعيه للحصول على هيمنة كاملة على الإعلام البريطاني، وهنا كتب هنري بورتر من صحيفة الـ''أوبزيرفر'' في الـ12 من أيلول (سبتمبر) الماضي، ما يفيد بأنه لا يوجد حزب سياسي بريطاني تمكن من الفوز في الانتخابات في الـ30 عاما الماضية من دون مباركة روبرت مردوخ، والدعم الذي يحصل عليه الحزب من الصحف التابعة لمردوخ. فإذا ما سحب تأييده السياسي عن أي حزب في وقت الانتخابات فإن الحزب يجد من الصعوبة بمكان المنافسة في الانتخابات. وهذا ما حصل في الانتخابات العامة الأخيرة التي خسرها حزب العمال وفاز بها خصومه من حزب المحافظين وشكلوا بالتالي حكومة.
وهذا الوضع مقلق لأنه منح مردوخ قوة إضافية تمكنه من أن تكون له أذان مصغية في الحكومة البريطانية. وربما لهذا السبب قام رئيس حكومة بريطانيا الحالي ديفيد كاميرون بتعيين أندي كولسون - المحرر السابق لـ''نيوز أوف ذي وورلد'' - ليكون مدير اتصالاته! وهذا ما دفع الكثير من المحللين والمراقبين السياسيين إلى الربط بين دعم مردوخ لديفيد كاميرون في الانتخابات الأخيرة ورضوخ كاميرون لتعيين المحرر السابق في ''نيوز أوف ذي وورلد'' مديرا لاتصالاته.
وهذا التأثير يثير قلق الكثيرين لكنه أيضا يستعمل في سياق المعركة لنزع الشرعية من محاولات مردوخ السيطرة على بي سكاي بي، وهنا نشير إلى مقال نشر في صحيفة الـ''جارديان'' وفيه يذكّر المقال القرّاء فيما إذا كان روبرت مردوخ في طريقه لأن يكون برلسكوني بريطانيا في إشارة صريحة للدور الذي يلعبه رئيس وزراء إيطاليا سيلفيو برلسكوني. فالأخير هو أيضا مسيطر على الإعلام الإيطالي بشكل دفع خصومه لاتهامه بخنق الديمقراطية في إيطاليا. ففي إيطاليا دائما ما يحصل برلسكوني على ما يريد؛ لأنه يمتلك المال ويمتلك السيطرة على وسائل الإعلام.
يذكر من قبيل التذكير بأطماع مردوخ- التي لا يبدو أنها تقف عند حد - أنه حاول دخول السوق الصينية بعد أن شجعته السلطات الصينية لكنه في نهاية الأمر وبعد أن استثمر كثيرا في الصين تيقّن من أن الصينيين لن يتركوه وشأنه، وأنهم لن يسمحوا له بأن يحقق مبتغاه، لذلك ترك الصين للصينيين! فهناك فهم في الصين يقوم على وجود رجال أعمال وإن بدا أنهم يسهلون الاستثمار في الصين، فإن همهم الأول هو عدم السماح لأي من خارج الصين من السيطرة على السوق المحلية، وبخاصة أن في الصين ما يقارب من 300 مليون من مستخدمي الإنترنت، وهو عدد يقارب عدد سكان الولايات المتحدة برمتهم.
لا يعرف بعد كيف يمكن لمردوخ أن يسيطر على الإعلام البريطاني وكيف سيؤثر ذلك في صناعة الإعلام في بريطانيا، لكن من الواضح تماما أن إتمام الصفقة بالشكل الذي يريده مردوخ سيضعه في موقف أقوى من كل منافسيه بما فيهم رئيس الوزراء إن قرر المنافسة أو المشاكسة، كما أن بقية الصحف ستواجه حالة صعبة جدا قد ترفع من كلفة البقاء في سوق بات لا يرحم إلا من سيطر على المال والإعلام. فالقضية تتعدى مسألة التعددية في الإعلام التي تريدها بعض الصحف، فالمواطن أو لنقل المشاهد بات مشدودا أكثر لبرامج الترفيه والتسلية، ولهذا في جعبة مردوخ الكثير ما يقدمه لهذه الشريحة الكبيرة. الخطورة هي الخط السياسي الذي يتبعه مردوخ إن قرر توظيف وسائل الإعلام التي تحت سيطرته بما فيها بي سكاي بي- في حال إتمام الصفقة- فيمكن لمردوخ أن يلعب الدور الحاسم في السياسة والانتخابات بحيث يصبح ما يمسى صانع الملوك في بلد ما زال يعيش الملكية!