التغيرات وسعر الصرف للريال السعودي والسياسة النقدية البديلة
تنتهج المملكة سياسة سعر الصرف الثابت مع الدولار، وعلى الرغم من الفوائد التي جنتها المملكة من هذه السياسة النقدية في القديم لأسباب عدة منها أن الدولار هو العملة المسيطرة على الاقتصاد العالمي وغالب دول العالم مرتبطة مع الدولار، إضافة إلى أن الواردات من منطقة الدولار (الولايات المتحدة والدول المثبتة عملتها مع الدولار) تمثل أكثر من 70 في المائة من واردات المملكة, وصادرات المملكة مقيمة بالدولار. جميع هذه المتغيرات في السابق جعلت من الربط مع الدولار سياسة مناسبة للاقتصاد السعودي. لكن مع التغيرات العالمية في الاقتصاد العالمي والتي تمت مناقشة بعضها في المقالة السابقة عن مستقبل الريال السعودي، فإن الوضع العالمي يحتم التفكير في إعادة النظر في السياسة النقدية التي تنتهجها المملكة للتبعات الاقتصادية على الاقتصاد السعودي والرفاه الاقتصادي للمواطن بسبب التغيرات العالمية والمحلية.
وتختلف الآثار الاقتصادية للسياسة النقدية الحالية للمملكة على القطاع الحكومي وعلى الرفاه الاقتصادي للمواطن. فبما أن النفط يتم تسعيره بالدولار والقطاع النفطي مملوك للحكومة ويشكل ما لا يقل عن 90 في المائة من الإيرادات الحكومية فإن ربط الريال مع الدولار يسهل على القطاع الحكومي تقدير الإنفاق الداخلي لثبات العلاقة بين الريال والدولار، ويقلل التكاليف المترتبة على القطاع الحكومي من جراء تغير سعر صرف العملة المحلية مع الدولار. لكن تثبيت الريال مع الدولار ينعكس سلبا على الرفاه الاقتصادي للمواطن والاقتصاد السعودي، والحكومة لا تسعى إلى تعظيم أرباحها بل هدفها الأساسي هو تعظيم الرفاه الاقتصادي للمواطن وإن تحملت من جراء ذلك تكاليف إضافية للفوائد الأكبر التي تنعكس على المواطن والاقتصاد المحلي.
فسياسة سعر الصرف الثابت للريال تؤدي إلى عدم استقلالية السياسة النقدية للمملكة، لذا فإن المملكة تتأثر بقرارات السياسة النقدية للولايات المتحدة الأمريكية التي قد تتعارض مع الوضع الاقتصادي للمملكة. فالدورات الاقتصادية للاقتصاد السعودي في الغالب تختلف عن الدورات الاقتصادية التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي، فنجد خلال هذا العقد وقبل الأزمة المالية العالمية أن الاقتصاد الأمريكي يواجه ركودا اقتصاديا حتم على البنك المركزي الأمريكي تبني سياسات نقدية توسعية بينما الاقتصاد السعودي يواجه خطر التضخم، ولكن بما أن الريال مثبت مع الدولار لا بد من التأثر بالسياسة النقدية على الدولار. كما أن عرض النقود في سعر الصرف الثابت يصبح متغيرا داخليا يصعب على السلطة النقدية السيطرة عليه، لأنه يتأثر بالمتغيرات الاقتصادية للاقتصاد الكلي. إن تأثر عرض النقود بالمتغيرات الاقتصادية للاقتصاد الكلي يحجم قدرة السلطة النقدية على السيطرة على عرض النقود وتبني سياسة نقدية مناسبة للاقتصاد المحلي.
وفي حالة المملكة بما إن السياسة المالية، وبالذات في جانب الإنفاق، هي السياسة المؤثرة في الاقتصاد المحلي وهذه السياسة تتأثر بتقلبات سوق النفط العالمي، فإن الحاجة ماسة إلى وجود سياسة نقدية أكثر مرونة تستطيع أن تمتص بعض آثار التغير في الإنفاق الحكومي على الاقتصاد المحلي. ولكن السياسة النقدية في المملكة تزيد الآثار السلبية للتغير في الإنفاق في حالة الطفرة أو الانخفاض الشديد في أسعار النفط من خلال التغير الكبير في عرض النقود المتأثر بالمتغيرات الاقتصادية والذي تعجز السلطة النقدية عن التحكم فيه، مما يسهم في رفع التضخم في الاقتصاد السعودي بشكل أكبر. والوضع الحالي للاقتصاد السعودي وتأثره الشديد بتقلبات أسعار النفط يحتم أهمية وجود سياسة نقدية أكثر مرونة لامتصاص الآثار السلبية لتقلبات أسعار النفط من خلال السياسة المالية على الاقتصاد السعودي.
إضافة إلى المتغيرات السابقة، فإن الاقتصاد العالمي يواجه حرب عملات تؤدي إلى تقلب أسعار العملات مقابل بعضها البعض لتحقيق أهداف اقتصادية لتلك الدول، والارتباط بعملة واحدة سيؤثر على المصالح الوطنية للدولة المرتبطة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الدولار الذي يرتبط به الريال يواجه مشاكل اقتصادية داخلية, وسيتأثر بالتغيرات في الاقتصاد العالمي التي تمت الإشارة إليها في المقالة السابقة مما يسهم في تغير قيمته مقابل العملات الأخرى . إضافة إلى التوجه العالمي لكثير من دول العالم لتبني سياسة نقدية أكثر مرونة، حيث أدى ذلك إلى تناقص عدد الدول التي تنتهج سياسة سعر الصرف الثابت. فنسبة الدول التي تربط عملتها بعملة واحدة وفي الغالب هذه العملة هي الدولار تناقصت في العقود الماضية لتصل تقريبا إلى 12 في المائة من إجمالي دول العالم، وقد كانت هذه النسبة تمثل ما يعادل 63 في المائة من إجمالي دول العالم في عام 1975م. وهذا التناقص يفسره نظام سعر الصرف الثابت الذي كان سائدا خلال الفترة 1944 إلى 1971 والذي يلزم الدول التي وقعت على الاتفاقية آنذاك بتثبيت عملتها مقابل الدولار. إن هذا التغير والاتجاه التنازلي في الأجل الطويل لقيمة الدولار سيؤثر على القوة الشرائية للريال السعودي ولا ينعكس بالفوائد المرجوة من تحفيز الصادرات السعودية في حالة انخفاض قيمة الريال مقابل العملات الأخرى لأن أكثر من 95 في المائة من صادرات المملكة هي نفط وبتروكيماويات يتم تسعيرها في الأسواق الدولية بالدولار الأمريكي. كما أن العمالة الأجنبية في القطاع الخاص تشكل ما لا يقل عن 60 في المائة من إجمالي القوة العاملة، وبالتالي انخفاض الريال بسبب انخفاض الدولار سيؤدي إلى انخفاض أجورهم الحقيقية والمطالبة برفع الأجور. كما أن غالب الطلب المحلي تتم تلبيته من خلال الواردات من جميع إنحاء العالم وبانخفاض قيمة الريال مقابل غالب عملات دول العالم فإن القوة الشرائية للريال ستنخفض مما يخفض الأجور الحقيقية للقوى العاملة ويدفع بالمطالبة برفع الأجور التي تشكل في المتوسط 60 في المائة من إجمالي تكلفة الإنتاج في الصناعات غير البترولية أو البتروكيماوية والذي بدوره يرفع تكلفة الإنتاج ويضعف القدرة التنافسية للمنتجات المحلية في الداخل أو في الأسواق الدولية.
إن الآثار الاقتصادية السلبية من الاستمرار في سياسة سعر الصرف الثابت، والتي تم التطرق لبعضها في هذه المقالة، على الاقتصاد المحلي والرفاه الاقتصادي للمواطن يطرح أهمية التفكير في إعادة النظر في هذه السياسة بما يحقق تعظيم الرفاه الاقتصادي للمواطن الذي من المفترض أن تسعى الدولة بجميع أجهزتها لتحقيقه. وبما أن الاقتصاد السعودي يعتمد على النفط وبسبب التقلبات الشديدة في هذا القطاع، فإن سياسة سعر الصرف المعوم بالكامل غير مناسبة للاقتصاد السعودي. وفي ظل المعطيات الاقتصادية للاقتصاد السعودي والمتغيرات الدولية فإن سياسة سعر الصرف المرتبطة بسلة عملات تأخذ في الاعتبار نسب الواردات والتغيرات المستقبلية وتوزيع القوى العاملة في تحديد أوزان هذه العملات التي يرتبط بها الريال السعودي هي الأنسب لإعطاء مرونة أكبر للسياسة النقدية لتحقيق الرفاه الاقتصادي. وبما أن دول الخليج الأربع (السعودية، الكويت، قطر، والبحرين) تعمل مجتمعة لإنشاء عملة خليجية واحدة تم إنشاء مجلس نقدي لتحقيق هذه الغاية ومن أهم المتطلبات تثبيت عملاتها مقابل بعضها. وجميع هذه الدول تثبت عملتها مقابل الدولار بينما الكويت مرتبطة بسلة عملات وذلك يخل بأهم شرط يسبق إطلاق العملة وهو التثبيت مقابل بعضها، فإن إنشاء هذه السلة في المجلس النقدي وربط عملات دول الخليج بها قد يكون استراتيجية تحقق أكثر من هدف للمنطقة.