الإساءة إلى صورتنا الذهنية .. الحج نموذجاً
تصرف المملكة مليارات الريالات في سبيل بناء صورة ذهنية إيجابية عن المملكة أو ما يسمى بالانطباع أو ما تعارف عليه الجمهور بسمعة المملكة، فتشارك مؤسسات الدولة في معارض خارج المملكة بالعشرات لبناء هذه الصورة، وتنتج مئات الأفلام لاستعراض إيجابياتنا ومنجزاتنا بالشكل الذي نرغبه، ويستضاف الضيوف بالآلاف لبناء أفضل صورة ذهنية ممكنة حول المملكة. بناء هذه الصورة ليس بالضرورة تزييناً للواقع، ولكنه إعلان للواقع وإبراز للإيجابيات التي تتمتع بها المملكة شعباً وحكومةً ومجتمعاً، وهو بالتأكيد ابتعاد عن السلبيات والمظاهر السلبية التي تهدم ولا تبني، وخلال رحلة الحج لهذا العام والتي أكرمني الله فيها بقضاء النسك وجدت أن البعض منا يسيء إلى الصورة الذهنية الإيجابية للمملكة في مواطن كثيرة وذلك من خلال الكثير من التطبيقات والمواقف التي تضر بالصورة الإيجابية عن المملكة؛ ومن أبرز المظاهر التي واجهتها وتؤثر بشكل سلبي في صورتنا وسمعتنا ''كسعوديين'' ما يلي:
ـــ التعامل غير الحضاري مع غير السعوديين ''وأقصد من اصطلح على تسميتهم بالأجانب''، فنجد أن هناك من موظفي بعض الجهات العاملة في الحج عند تعاملهم مع الأجانب يصطبغ هذا التعامل بالفوقية وخاصة عندما تقل الثقافة ومستوى التعليم والحالة المادية للأجنبي، فلا يستشعر في ذلك شرف خدمة الحجيج ولا كرم الضيافة، وأذكر في هذا السياق حالة عاينتها بنفسي معاينة شخصية، وذلك عند ضياع أحد الحجاج الذين وجدتهم في أحد مساجد حي العوالي في مكة، وبعد الاتصال بمطوف تلك الدولة ووصفي لحالة الحاج الطاعن في السن الذي كان في حالة رثة من الناحية الصحية والنظافة الشخصية ولا يتكلم العربية ولا الإنجليزية للترتيب لتوصيل الحاج إليهم في مقر مؤسسة الطوافة فوجئت بطلبه بأن أوصل الحاج إلى منى (وتركه هناك) حيث سيجد من يدله إلى مخيمه!! ولم يرتدع الموظف ويعد لتزويدي بوصف مقر مؤسسته إلا بعد أن هددته بالشكوى للجهات الرسمية!
ـــ عدم معرفة بعض الموظفين في الميدان بالمعارف التي تجب عليهم، وطريقة الحلول الممكنة للمشاكل المتوقعة، وأسوق هنا أيضاً حالة عاينتها بنفسي عندما تعلقت بي امرأة عجوز ضائعة عن حملتها في منطقة الحرم وطلبت مني مساعدتها للوصول إليهم، فأخذت بطاقة الحاجة واتصلت برقم الهاتف الخاص بالحملة فردت علي نغمة جهاز الفاكس، اتصلت بعدها برقم الجوال لأكثر من مرة وللأسف كان مغلقاً، فما كان مني إلا أن أخذتها بنفسي لأحد العاملين في الميدان واستفسرت منه عن موقع التائهين (لاحظ أنني لم أسأله عن موقع الحملة) فكان رده بأنه لا يعرف أي شيء في المنطقة فهو من خارج مكة وطُلب منه الوقوف هنا لترتيب المشاة فقط، سألت رجلا آخر وللأسف جاءتني إجابة مشابهة لسابقتها، وبعد الكثير من السؤال وجدت موقع التائهين، والذي كان للأسف مكاناً غير لائق فضلاً عن بعده عن الحرم!!
ـــ القسوة في التعامل مع الحجاج والضيوف بشكل مغاير لجميع معايير التعامل ! فضلاً عن أصول كرم الضيافة ومعايير شرف خدمة الحجاج، فقد حضرت من خلال طوافي بالبيت مناسبة تغيير كسوة الكعبة، وقد كانت عامرة بكل جميل، ولتجهيز المكان كان من المهم فرض طوق حول الكعبة، ولتفريغ الحجاج داخل هذا الطوق كان بعض العاملين المكلفين يتعاملون مع الحجاج بوسائل عنيفة أبسطها رفع الصوت وكانت تصل مع حدتها إلى دفع الحجاج للأسف!!
ـــ قلة عدد العاملين خارج منطقة المشاعر (العزيزية على سبيل المثال) فتجد الفوضى العارمة بجميع صورها بين المارة من المشاة من جهة وبين المرور من السيارات من جهة أخرى، حتى أننا اضطررنا (أنا وبعض ركاب حافلتنا) في ثلاثة مواقف مختلفة أن ننزل من الحافلة ونعمل على ترتيب المرور والسير، بينما كان يمكن أن يتم تعيين المئات من الموظفين المؤقتين من أبناء مكة خاصة للعمل في موسم الحج لهذا الغرض.
ـــ النظافة في بعض المشاعر والأحياء القريبة منها كانت صورة مؤسفة، خاصة في العزيزية والطرقات المؤدية إلى الجمرات، فعبوات القمامة مليئة والشوارع مزدحمة بالقمامة، ولم أواجه أي سيارة أو عامل نظافة في تلك المناطق التي عايناها.
ـــ لا أجد أي وصف لتنظيم النقل من منى وإلى الحرم إلا أنه ''مخجل''، فكأننا نتعامل مع النقل العام لأول مرة، فمحطة النقل الجماعي في منى يختلط فيها البشر بالحافلات، وتبحث عن بائعي التذاكر ولا تجدهم، وعند ركوب الحافلة لا أثر لأي تنظيم، والمفترشون في الطرقات المؤدية إلى المحطة ومسارات المحطة أكثر من الركاب، ناهيك عن القاذورات المنتشرة في كل مكان.
ـــ أما في محطات البنزين واستراحات الطرق في طريقي الذهاب والعودة من الرياض إلى مكة والعكس، فلم تصادفنا دورة مياه واحدة تصلح للاستخدام؛ فالأوساخ في كل مكان، والحال يصعب وصفه.
ما ذكرته أعلاه لم أسمع عنه من الغير ولكني عاينته معاينة شخصية، وهو بالتأكيد يسيء لأي جهود لتحسين السمعة، أو بناء الصورة الإيجابية للسعودية، كما أن ما ذكرته لا يعني عدم وجود الصور الإيجابية في الحج فالأصل أن تسير الأمور على ما يرام، لذلك لم أبرز إنجازات الدولة في مشروع الجمرات مثلاً، ولم أحدثكم عن بعض السعوديين الذين يتحمسون لمساعدة أي حاج، ولم أذكر رجل الأمن الذي كان يخاطب الحاج الكبير بلفظ ''يا عم'' والصغير بلفظ ''يا أخي'' مترافقاً ذلك مع ابتسامة من القلب ووجه مضيء، لذلك فمقالي هذا يتحدث عن الاستثناء الذي يجب ألا نسمح به.
أين تكمن المشكلة ؟ للأسف إننا أكثر دولة ننفق أموالنا على الأصول الثابتة ؛ فلدينا أفضل الطرق وأفضل المطارات وأفضل المباني للوزارات والدوائر الحكومية، بل إننا حتى على المستوى الشخصي، نبني أفضل البيوت ونملك أفضل السيارات، لذلك فإن مشكلتنا ليست في وجود المشاريع والمباني والأصول! مشكلتنا في كيفية إدارتها، مشكلتنا تكمن في التشغيل والتدريب وثقافة التعامل مع الآخر (الأجنبي) وهذه هي التي يجب أن نعمل ما في وسعنا لتغييرها، وأول خطوات التغيير يكون بتشخيص عيوبنا ومعرفتها وعدم إنكارها (كما هو حاصل في كثير من وسائل الإعلام) ومن ثم وضع خطة شاملة للتغيير، و''إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم''.
خاتمة.. ماذا لو استشعرنا في عملنا شرف خدمة الحجيج وضيوف الرحمن؟ ماذا لو استشعرنا بأن ما أنعم الله به علينا من مال وأمان إنما هو منة من الله سبحانه لإكرام وفد الرحمن وضيوفه؟ هل سيتغير شيء يا ترى؟! السؤال للقراء الكرام، ولكني أجزم بأننا لو استشعرنا بعض ذلك فسيتغير كل شيء للأفضل.