عندما يصبح مفهوم الأمن الإنساني بديلا عن حقوق الإنسان
على الرغم من أهمية التعاون الدولي الإنساني، وأهمية أن تولي دول العالم أجمع جزءا من سياساتها لقضايا الإنسان العالمي، إلا أن هذا الجانب كان محل هواجس أمنية لدول ومجتمعات مختلفة خاصة عندما يأتي هذا الاهتمام في إطار وبعد سياسي، ولهذا ينظر مثلا بتوجس لمختلف الاهتمامات الأمريكية بقضايا الإنسان على مستوى دولي منذ أن دخل مفهوم حقوق الإنسان والإصلاح والديمقراطية ضمن أدبيات السياسة الخارجية، ومع ذلك تزداد الحاجة لجعل مفهوم الإنساني خاليا من الأبعاد السياسية.
من المسلم به أن الأمن كمنظومة من المفاهيم لم يعد في مستهل القرن الـ 21 يشتمل في تعريفه على النواحي العسكرية، بل هو مفهوم يتجاوز الدولة وأمنها إلى الأفراد وأمنهم الإنساني ومسارهم والتنموي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
ولكن يبقى السؤال مفتوحا: ما المسافة الفاصلة بين حقوق الإنسان والأمن الإنساني والأمن بمفهومه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي؟ وهل يمكن تحقيق الأمن بمفهومه الواسع لردم الفجوات التي تعوق تقدم مجتمعاتنا وتحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيه؟ وهل يمكن أن تتم معالجة التوترات القائمة والكامنة فيه دون أن يكون مفهوم الأمن الإنساني مدخلا جديد للتدخل في سيادة الدولة الوطنية؟ تلك الأسئلة وغيرها الكثير من المسلم به أن الإجابة تستدعي البحث في ما وراء ذلك المفهوم، ولعل بعض الإجابات التي قدمها تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن التنمية البشرية العربية عام 2009، والذي جاء بعنوان "تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية"، تقدم بعض الإجابات لكثير من الأسئلة التي تطرح، ولعل أهم ما فيه الحديث عن أن انعدام العناصر الأساسية لأمن الإنسان بدءا من الحصول على المياه النظيف والتحرر من الجوع، إلى غياب الديمقراطية وضعف سيادة القانون، هي التي تحرم سكان الدول العربية من قدرتهم على استخدام كل طاقاتهم الكامنة!
وهذا الأمر على حقيقته يشكل المدخل الناعم لكثير من القوى الغربية للتدخل في شؤون الدول والأفراد، ولذلك تقتضي مصلحة الدولة الوطنية الالتفات إلى أهمية التعامل مع القضايا التي يطرحها مفهوم الأمن الإنساني بكثير من الحكمة والتبصر لمواجهة الأجندات السياسية التي يمكن أن يحملها مروجو هذا المفهوم. الكل أصبح على يقين تام أن كثيرا من القضايا التي تطرح في قضايا حقوق الإنسان وقضايا الأمن الإنساني لاحقا، هي عناصر رئيسة للتدخل في الأمن الوطني للدول.
بناء على ما سبق، فإن الفرد يشكل العنصر الأساسي في فهم وتحليل مفهوم الأمن الإنساني، ويؤسس على ذلك أن أمن الدول على أهميته ليس وحده الكفيل بتحقيق أمن الأفراد. وإذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك، فإنه في بعض الحالات تفقد الدول مبررات وجودها وتتحول ضد أمن مواطنيها. بناء على ذلك كله تطور مفهوم الأمن الإنساني لدمج الفرد في مجمل العملية الأمنية، وذلك من خلال التركيز على تحقيق أمن الأفراد داخل وعبر الحدود، بدلاً من التركيز على أمن الحدود ذاته وتحقيق أمن الأفراد، الذي لا يمكن تحقيقه بمعزل عن أمن الدول. وهذا بحد ذاته تطور يستدعي النظر إلى ضرورة أن تحصن الدولة الوطنية جبهتها الداخلية وتعزز مفهوم الأمن الإنساني وحقوق الإنسان لدى مواطنيها، وتجعله حقيقة على أرض الواقع حتى لا يستغل هذا الأمر لزعزعة أمن الدولة. ويمكن النظر إلى مفهوم الأمن الإنساني على كونه يخطو خطوة أبعد من مفهوم حقوق الإنسان، وذلك فيما يتعلق بكون مفهوم حقوق الإنسان في أغلب الأحيان يأخذ شكل المطالبات القانونية ممثلة في ضرورة توافر تشريعات قانونية كفيلة بوضع التزامات محددة تجاه حقوق بعينها كاتفاقيات حقوق الطفل، أو المرأة، أو اللاجئين، وغيرها من الاتفاقيات القانونية سواء أخذت الطابع العالمي أو الإقليمي، إلا أننا نجد مفهوم الأمن الإنساني يخطو خطوة أبعد نحو التركيز على الإصلاح المؤسسي، فمفهوم الأمن الإنساني يركز على كيفية إصلاح المؤسسات القائمة والمعنية بتحقيق أمن الأفراد أو إنشاء مؤسسات جديدة كفيلة بهذا الأمر.
من جملة المعطيات السابقة حول مفهوم الأمن الإنساني، يمكن فهم النقاط الواردة في تقرير التنمية البشرية الذي سلط الضوء على واقع المنطقة السياسي والاقتصادي والاجتماعي غير العادل، والصراع على السلطة، وتوزيع الموارد على فئات معينة من المجتمع، وفي بعض الحالات التدخل العسكري الخارجي، كأهم العوائق التي تهدد أمن الإنسان العربي الذي وصفه التقرير بأنه شرط مسبق لتحقيق التنمية البشرية.
وثمة عديد من التدابير الواجب اتخاذها والتي يمكن من خلالها تجذير أمن الإنسان في العالم العربي بما في ذلك الضمانات العالمية لحقوق الإنسان والحريات وخصوصا حقوق المرأة، وحماية البيئة، ومعالجة الفقر والجوع، وتوسيع الخدمات الصحية، وإنهاء الاحتلال والتدخلات العسكرية التي تتسبب في معاناة الإنسان وتقضي على التنمية الاقتصادية. ولكن من اللافت للنظر في الواقع الاجتماعي والسياسي في عالمنا العربي، استمرار للثنائيات في الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي. وهذه الثنائيات تشكل مكونا أساسيا من مكونات تلك الثقافة، حيث يصعب الفصل بينهما بحكم هذا التكوين الثنائي البعد، ولعل من أبرز السجلات الدائرة في هذا السياق الحديث عن تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي لمصلحة اقتصاد السوق الذي يطرح الآن كمفهوم وأيدولوجيا وفي السياق ذاته، ونحن كجزء من هذا العالم دخلنا كذلك في هذا السجال في محاولة للتصنيف أين نقف نحن من ذلك السجال؟ وهذا بدوره ينعكس على قدرة الدولة على القيام بدورها في تحقيق مسار التنمية الإنسانية ويعالج التوترات القائمة فيه، ويجعل من الشراكة مع مجتمعاتها طريقا يحفه كثير من المخاطر التي تؤكد عمق الأزمة بين الدولة والمجتمع، وتجعلها عرضة للتدخل الخارجي.
وبرزت الأسئلة التي تحاول أن تفسر طبيعة التغير الذي حدث في المشهد الجديد لشكل الدولة، وأصبح هناك خلل بين طرفي المعادلة (الدولة ـ المجتمع)، وهذا الخلل لا يعترف به مؤيدو هذا الاتجاه في دور ووظيفة الدولة، بل إنهم يعتقدون أنه الوصفة المثالية والدواء الناجح للمشكلات التي تعانيها البشرية ـ خصوصا بلدان العالم الثالث التي تئن تحت وطأة التخلف والفقر والمرض والجوع والأمية والتسلط والتبعية وغياب القيم الإنسانية التي تضمن الحد الأدنى من كرامة الإنسان!
وبالضرورة أن تلك الوصفة التي تبرر تخلي الدولة عن مجتمعها وتجعل دورها حكرا على معالجة القضايا الأمنية، لا تتفق ووجهات النظر الأخرى التي ترى أن تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي سيقوض أركانها، وذلك وفقا للنتائج الملموسة لتجربة بلدان الأطراف التي ارتهنت لدول المركز، وأخذت بمفهوم اقتصاد السوق الذي فكك البنية الاجتماعية والسياسية للدولة، ما أسهم في تفاقم المشكلات الاجتماعية فيه وزيادة التوترات، وأسهم في انقسام المجتمعات وفق منظومتها القبلية والطائفية والإثنية.
وذلك يستدعي منا الوقوف قليلا لفحص هذا المفهوم لمعرفة قوته في واقعنا السياسي والاقتصادي الذي نعيشه، ومعرفة آثاره الكبيرة في نمط حياة المواطن العادي وفي الدولة بحد ذاتها. بعد نصف قرن من تدخل الحكومات في حركة السوق، قامت الشركات الاقتصادية الكبرى بمساعدة من الحكومات الرأسمالية بإعادة النظر في سياسية التدخل الحكومي، وعمدت تلك الشركات إلى إلغاء سياسيات التدخل الحكومي التي تعدل من حدة سيطرة السوق على حياة المجتمع.
من خلال جملة من السياسات أولها: تحرير أسعار جميع السلع (منتجات وخدمات) من أي ضوابط خارجية عن حرية السوق ومعادلة العرض والطلب، حيث استطاعت قوانين السوق أن تجعل من سير تحرير الأسعار ينفذ بشكل مباشر إلى قطاع الخدمات الذي يعد أهم حصون الدولة في أي مجتمع. وشمل تحرير الأسعار في بعض البلدان الخدمات العامة كالتعليم والصحة والنقل، وكذلك بعض الخدمات التي تقدمها الدولة جزئيا أو كليا، أو السلع التي تدعم الدولة أسعارها.
ثانيها: الخصخصة وهي عملية نقل ملكية مؤسسات الإنتاج وبعض السلع والخدمات من القطاع العام إلى القطاع الخاص، الأمر الذي يستلزم القيام بتعديلات دستورية لإلغاء ملكية المجتمع، تلك الملكية العامة المصونة دستوريا (الثروات الجوفية،الأملاك العامة والمشاعة).
وثالثتها: إعادة النظر في دور الدولة،عبر إلغاء دورها في المهام الاجتماعية والاقتصادية التي تقوم بها الحكومات، وذلك عن طريق تخفيض وإلغاء السياسيات والبرامج الاجتماعية، أي تلك الإجراءات التي تؤدي إلى تخفيض وإلغاء ما تقدمه الدولة والمؤسسات الاجتماعية من مساعدات للمواطنين فيما يعرف باسم الحماية الاجتماعية للمجتمع. ويكون ذلك بتفكيك وتعديل وإزالة المؤسسات أو القوانين التي تقوم بدور تنظيم شروط العمل. وتعتبر الليبرالية الجديدة أن توسيع الأسواق وجعلها ميدانا عالميا متحررا من القيود القومية وحدود الدول، يستلزم إعادة النظر في دور الدولة أيضا.
وبالتالي يجب التحرر من كل السياسيات التي تعوق حرية توسيع الأسواق وتطويرها، من خلال سلسلة من الإجراءات كإلغاء الحواجز الجمركية واعتماد سياسات الأجواء المفتوحة، وللفت للنظر في هذا النهج أن قوة اقتصاد السوق أبقت على عاتق الدول ضرورة التدخل في ميدان محدد وهو تأمين البنية التحتية اللازمة لتطوير حركة السوق من طرق، موانئ، مطارات وبنى تحتية متكاملة لتسهيل حركة تلك الشركات.
وبسطوة كبيرة لرأس المال الدولي فيما يعرف بسياسة التثبيت والتكيف الهيكلي تحت عنوان الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لم يعد من صلاحية الدول التي رضخت لشروط المؤسسات المالية والدولية والدول المانحة للقروض، أن تصنع القرار الاقتصادي أو تتدخل في السياسات الاجتماعية لبلدها وجرى التدخل لفرض تصورات المنظمات المالية الدولية مثل البنك الدولي وبنك الأعمار ومنظمة التجارة العالمية والشركات متعددة الجنسية، والدول الغربية المقرضة فيما يتعلق بسياسات الأجور والإعانات وتقليص الميزانية العامة عن طريق تخفيض النفقات وأشكال الدعم المقدم للخدمات والسلع الأساسية وإطلاق الأسعار،وتصفية وبيع ممتلكات ومشاريع الدولة.
خاصة تلك المشاريع الناجحة والمربحة فيما يعرف بسياسة التثبيت الهيكلي والتخصيص وفتح المجال أمام الرأسمال الأجنبي والمحلي لتملكها عن طريق شراء أصولها الثابت أو الدخول كأطراف مشاركة، ويتم ذلك وسط تفاقم المديونية والتبعية الاقتصادية التي قيدت الدولة والوطنية وجعلتها أسيرة تلك الشركات لذلك تهدد مفهوم الأمن الوطني للدولة بكافة مفاهيمه. وبناء عليه فإن فالأمن السياسي والاجتماعي يقع ضمن مفهوم الأمن الوطني (القومي) الذي يرتبط بالعوامل الداخلية والخارجية المؤثرة فيه وهو بهذه الحدود يعنى حماية المجتمع. وإن القصد من الأمن السياسي والاجتماعي هو تحقيق الاستقرار واحترام حقوق الآخرين واحترام التنوع الثقافي والعرقي والديني وجعل المواطنين شركاء في صياغة مستقبلهم.
فموضوعات الأمن الاجتماعي والسياسي،على خطورتها وضرورتها وانعكاساتها على الحياة وخطط التنمية ذات الإبعاد الاستراتيجية تسهم في كشف جذور معظم الإشكالات والظواهر الاجتماعية التي تؤكد أن تصاعد وتيرة العنف بكل مستوياته والذي يعد من أهم عناصر التهديد للأمن الاجتماعي والسياسي يرتبط ارتباطا مباشرا باعتماد سياسية السوق المفتوح التي تعتمد الفوضى ولا تستند إلى الشروط التاريخية والاقتصادية لبلدان لها تجارب ناجحة في هذا المضمار، كما أن تدمير بنية الطبقة الوسطى في أغلب العالم العربي يعد من العوامل الحاسمة في انتعاش الأمن الاجتماعي وانحساره.
وتفشي ما يعرف (بثقافة الفقر) التي تقويض دعائم الأمن الاجتماعي الذي يؤدي بالضرورة إلى تقويض الأمن السياسي، وثقافة الفقر هي مجموعة أعراف وتقاليد تميزت بها مجتمعات التهميش والإقصاء وما يسمى اليوم إعلاميا بالمجمعات العشوائية، وهي أحياء تزايدت نسبتها بازدياد سياسات القمع وانحسار سياسات التخطيط الإنمائي، وتشكل هذه الثقافة مرجعا سلوكيا في تشكيل القوى التدميرية المهددة للأمن الاجتماعي والسياسي على حد سواء، وخاصة بعد انضمام أفواج من الطبقة الوسطى إلى هذه الثقافة والتي استقطبت في فلكها جماهير غفيرة من العاطلين عن العمل الذين على المدى القريب سيشكلون نواة تدميرية للعنف والعنف المضاد كوسيلة للتعبير عن الذات ووسيلة متاحة للتعبير عن الاحتجاج وعدم القبول بالواقع والتكيف مع قوانينه الاجتماعية وأعرافه السلوكية.
وهنا مكمن الخطر في محاولة استغلال مفهوم الأمن الإنساني لبناء تحالفات دولية وإقليمية لتبرير التدخل في الدول التي لا تعيد إنتاج العقد الاجتماعي مع مواطنيها لخلق حالة من الإجماع الوطني على منظومة القيم والحقوق التي تضمن استمرارية الدولة والإفراد بعيدا عن سطوة الأجندات التي تهمش دور الدولة الوطنية وتسعى للتدخل في شؤونها.