عالم بلا حيطان
المحافظة على الأسرار في هذا الزمن باتت أكثر صعوبة مما كانت عليه في زمن سابق، فمن لا يزال يعتقد بإمكانية التكتم وإغلاق المنافذ عليها، يعيش في زمن ولى ومضى وأصبح جزءا من الماضي، فهذا الزمن الذي نعيشه، وأظن أننا في بداياته، لم تعد هناك حيطان تحتاج لآذان تسترق السمع، فقد بات كل شيء تقريبا مكشوفا ومعروفا، وما لم يعلن عنه يمكن استشعاره بعدة وسائل مع هذا الانفتاح المعرفي والمعلوماتي والإعلامي الواسع وغير المسبوق.
العالم اليوم لم يعد مجرد قرية صغيرة، بل أصبح متجرا كبيرا مفتوحا تستطيع أن تلتقط منه ما تشاء من معلومات، ولست في حاجة لتذهب إليه، بل تصلك المعلومة وتحصل عليها بضغطة زر، فهذا موقع ''ويكيليكس'' أحضر لك وثائق وزارة خارجية الدولة العظمي السرية بنصوصها، وعرى دبلوماسيتها وكشف عوراتها الأخلاقية .. والحبل على الجرار.
في ظل هذا المناخ العالمي المفتوح من ناحية، ومن ناحية أخرى، تعدد وسائل المعرفة ومصادر المعلومة، يكون الحصيف اليوم هو من يدرك ذلك ويقدر أهميته، وليس من لا يزال يعتنق ''نظرية النعامة''، التي أصبحت بالية ومضحكة، والأكثر حصافة هو من يتعامل مع الحقائق والوقائع بانفتاح وثقة بالنفس، لا أن يجهد نفسه بمحاولة إنكارها أو إخفائها، فالعالم اليوم باتت له عيون ترى وآذان تسمع وعقول تستطيع أن تقرأ وتفهم ما بين السطور وتدرك ما يجرى في الغرف المغلقة، أو ما يظن أنها ما زالت مغلقة، ففي ظل هذا الانفتاح وتعدد مصادر المعلومة والقدرة على قراءة الوقائع، باتت المعلومة تتسرب كما يتسرب الماء في الرمل، والتحكم فيها صعب وغير ممكن كما كان عليه الأمر لما قبل عقد من الزمن، وحين تترك تتسرب في وقت يظن أنه محكم عليها الإغلاق، تكون له نتائج سلبية كثيرة أقلها ضررا خلط الحقيقة بالإشاعة، والصحيح بالخطأ، وهو ما يسهم في إثارة البلبلة، بينما لو قدمت المعلومة من مصدرها ولم تترك تتسرب من هنا وهناك، لقضي على الإشاعة وأفقدت قيمتها ومصداقيتها وتأثيرها، ولدينا على ذلك مثل رائع وبارز يعكس مدى الشفافية والثقة بالنفس ووعيا بحقائق العصر وضروراته، وذلك حين ظهر خادم الحرمين الشريفين ـــ عافاه الله وأسبغ عليه الشفاء وأعاده لبلاده وشعبه سالما إن شاء الله ـــ ليعلم بشفافيته المعهودة وعفويته النقية أن العارض الصحي الذي ألم به هو انزلاق غضروفي، ثم الإعلان عن سفره ـــ حفظه الله ـــ لاستكمال العلاج في الخارج، فأسقطت بعد ذلك كل الإشاعات التي كثيرا ما تجد بيئة صالحة لها في مثل هذه الحالات، ولم تترك لأصحاب التأويلات ومدمني الإشاعات الفرصة لتصيدها.
قبل عقدين من الزمن سقط حائط برلين الذي بات سقوطه رمزا للحرية والانفتاح على العصر والعالم بعد حقب عزل وانعزال، وها نحن بعد 20 عاما نشهد سقوط حائط السرية عن المعلومة لتنطلق في الآفاق بلا قيود، فمن لا يريد أن يبقى أسير وهم جدار برلين عليه أن يتعامل مع المستجدات ويواجه الوقائع بشجاعة وثقة، فالصمت والكتمان لم تعد لهما جدوى اليوم، فالعالم سقطت جدران كثير من حصونه السرية، وأصبحت فيه المعلومة كالهواء لا يمكن حبسها في الأدراج المغلقة، فإلى ما قبل عدة سنوات كان علينا الانتظار 30 عاما كي تتكشف الوقائع، أما اليوم فالأمر لم يعد يحتاج إلا لفترة زمنية قصيرة.
التوافق مع هذه الحالة العالمية المستجدة يكمن في مزيد من الشفافية، إن أردتم القول، أو المصارحة وليس التصرف وكأن كل شيء تمام وبالتغافل عن أمر كل من حولك يعرفه ويحس به ويدركه، فنحن نعيش في عالم مفتوح بلا أبواب ولا نوافذ بل ولا حتى حيطان.