ظل ممسكا بالأمل ورافضا لخيار الطائفية

40 يوما ستمر قريبا على رحيل شيخ المؤرخين العرب عبد العزيز الدوري، وفي الغياب يلح السؤال في البحث عن مصير العراق الذي رآه الدوري، في ظل حديث راهن عن توافق عراقي على اقتسام السلطة بين الطوائف السياسية.
والعراق زمنا ومصائر، لا ينفصل عن سيرة الدوري وحياته كأحد أبرز نخب العراق وأبنائه المثقفين الذين عاشوا في المنافي مبعدين، وهم قبل الإبعاد كانوا قد شاهدوا العراق ينقلب غير مرة، ليكونوا الضحايا، وقلوبهم تنفطر حبا وشوقا للديار الأولى.
ولد عبد العزيز بن عبد الكريم بن طه بن حمد الدوري، في بلدة الدور، ومصادر العائلة تصفها بأنها بلدة صغيرة كانت مغلقة على أبنائها، وهي في الضفة الشرقية لنهر دجلة، وقد لمع منها قادة وعلماء ومفتون، سكنتها قبيلة الجبور العربية القحطانية، ومن أبرز عشائرها "الشويخات"، وشيخهم الحاج أسعد بن طه بن حمد، وعلى ذلك فوالد الدوري عبد الكريم شقيق أسعد، من بيت شيخة، وهو في رأس عائلتهم قدرا وعلما وكرما.
ومن عرف الدوري عن قرب، يدرك ذلك، في كرمه الآسر، ورحابة صدره، وسجاياه السمحة، وحبه للناس، كان رجلا من عيون أهله، وظاهر عليه أنه من أهل البيوتات.
سأل معاوية بن أبي سفيان الحسن البصري بأن ينصحه، فقال الحسن البصري: "يا أمير المؤمنين عليك بأهل البيوتات فإنهم إن عدموا الدين لم يعدموا المروءة". وذلك هو الدوري صاحب خلق قويم، وسيرته ناصعة بالبياض.
عاش الدوري العراق بآماله وآلامه، ارتحل صغيرا مع أسرته إلى بغداد، وسكن في محلة العلاوي في منطقة الكرخ وفي مدرستها تخرج، وكان نابغا في رسم الخرائط، كما يقول قريبه الشيخ العالم قحطان الدوري، ثم صدر قرار بابتعاثه لدراسة التاريخ، يقول قحطان الدروي: عندها ذهب لقريته وحفر على جدار البيت "وداعا يا قريتي الصغيرة"، وبقي النقش مدة طويلة. وفي لندن عاصر الحرب العالمية الثانية، ودخل جمعية الطلبة العرب، ولما عاد للعراق، عمل في معهد المعلمين، ثم أسس كلية الآداب في حي باب المعظم وصارت فيما بعد نواة لجامعة بغداد التي أسست عام 1958.
درّس عام 1959ـــ 1960 في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم عاد إلى بغداد ورشح لرئاسة الجامعة، لكن حكم العسكر أيام عبد الكريم قاسم حال دون ذلك، واعتقل الدوري وحبس، في معتقل الرشيد سجن رقم(1).
وبقي معتقلا حتى ثورة شباط (فبراير) 1963 التي قام بها عبد السلام عارف، الذي قَدَّر الدوري واحترمه، وأصدر ضمن بيانات الثورة قرار تعيينه رئيسا لجامعة بغداد، وبقي الدوري رئيسا حتى استقال من الرئاسة عام 1966، لكن ما لبث أن عاد إليها مع تولي عبد الرحمن عارف رئاسة الجمهورية. وظل حتى انقلاب البعث في تموز (يوليو) 1968؛ حيث غادر لبيروت ثم لعمان وبقي في الجامعة الأردنية حتى توفاه الله في الساعة العاشرة والنصف من يوم الجمعة رابع أيام عيد الأضحى، الموافق 30/11/2010.
عراق اليوم ليس هو عراق أواخر الستينيات، عندما غادره الدوري وفي كل مرة كنت أسأل فيها الدوري: أما اشتقت للدور مسقط رأسك؟ يبتسم ابتسامته المعهودة، ويوجه نظره لصورة بلدته التي حملها أحد رفوف مكتبته في قسم التاريخ في الجامعة الأردنية، وغلبه العشق لبغداد، فظل الدوري وفيا لها، ولتاريخها وناسها وكأنه يقول بلسان ابن زريق البغدادي:

استودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

لم يعرف عن الرجل أنه اغتاب أو استخدم ذخائر المؤرخين المعتادة في تصفية مواقفهم مع خصومهم، فلم يشعر أحد بأنه فارق العراق غاضبا، وقلما أفصح عن عتب أو حسرة.
بيد أن الدوري الذي طالما كتب عن الشعوبية كظاهرة ثقافية مارست دورا جسيما على الثقافة العربية قُدر له مع الأسف أن يرى العراق وقد عاد شعوبا وقبائل وطوائف، وفي الذكرى الأولى لاحتلال العراق سألته: هل أنت مؤمن بقدرة العراقيين على تجاوز المحنة؟ ابتسم وقال بلهجته العراقية: ابني حيل مر غزاة على دجلة والفرات!!
ومع ذلك، كان همّ العراق يسكن الدوري؛ فلطالما أشعل غليونه ـــ في محاضرتنا معه في مرحلة الدكتوراه ـــ والعراق حاضر في أحاديثه العلمية والثقافية، وبدأنا ندرك أن ماء دجلة يمر بين أنامله وكأن الفرات يرطب جوفه باستمرار.
في أحد اللقاءات الحوارية لكاتب هذه السطور المنشورة في مجلة "المجلة" السعودية عام 2008 حذر الدوري من خطر الانقسام العراقي ومن تجذر روح الطائفية بشكل يجعل العراق دويلات داخل دولة. ولما كان السؤال عن دوره مؤرخا في تفسير سقوط العراق السريع في يد الاحتلال، وعن الكيفية التي ينظر بها للأمر للحظة المعاصرة في العراق، قال:
".. أبدأ بالتقرير بأن ما حدث أصاب الكل بالدهشة أو بلغ فيهم حد الذهول، وهذا لا يترك مجالاً لكتابة التاريخ الرصين، لكن من المهم تسجيل ما جرى، ومن زاوية أخرى يجب أن نعترف بأن الأحداث تمر بسرعة وما يرافقها من تبعات ومآس، ولكن ما جرى قد يولد حتماً أو يحدث نوعاً من الإحباط، وفي الوقت نفسه فما حدث هو عامل تحدٍّ يجب أن يدفع للدراسة ورصد الأسباب والتساؤل عن دواعي ما وصلنا إليه، ويجب أن ننتبه إلى رأي الشعوب؛ لأنها هي التي تحيا وتستمر حتى إن ظهر نوع من الفوضى، فلا بد من الالتقاء في النهاية على مصلحة الوطن.. وهنا دعني أستشهد بالمثل الألماني "الأزمة التي لا تقتلك تقويك"، ومثل هذه الأزمات تدفع للفحص والتحقق من التيارات لتجاوز المحنة والتحرر وإعادة البناء بعد الدمار...".
ثم كان السؤال عن دوره بوصفه مثقفاً عراقيّاً يعرف جيدا مفاصل مجتمعه، وله كلمة تحترم بين النخبة العراقية، وبمباشرة واضحة سألت الدوري يومها عن أسباب صمته تجاه تاريخ العراق المعاصر، ولماذا لم يكتب مذكراته؟ فقال:
".. هذا سؤال يراود الإنسان بين حين وآخر، وبعض الناس يرى أن كتابة المذكرات سبيل للإبقاء على العلاقة مع التاريخ، وذلك بتسجيل أحداث عادية. أما أنا فأفهم المذكرات بأنها تعطي صورة عن المرحلة والأحداث وفيها رؤية لمسيرة المجتمع، وعن طريق هيكل المذكرات يكتب تاريخ الفترة أو الزمن الذي مر به الواحد، وهذا ما أفكر فيه".
وعن مستقبل العراق وصعود الطائفية نجد الدوري ينبذ الروح الطائفية، وهو متفائل بتحول قريب وعودة للهوية الجامعة، وبرغم الدمار والإنهاك فهو يقول: "...التاريخ يقول إن بغداد هي المركز وعاصمة الخلافة، والروابط بين الشعب قوية مهما اختلفت طوائفه ولا يوجد فوارق، هناك فكرة راسخة للشعب الواحد، الذي هو جزء من الأمة، هناك تسامح ووئام، وهذا ما تكشف عنه تقارير الرحالة الأجانب في العراق، الكل يتوحد في بوتقة واحدة، ويجب تأكيد مقولة العراق عراق، والعراقيون سواء...".
هكذا كان حال الدوري دوما؛ يراهن على الوعي بالذات والهوية العربية الجامعة، ففي رسالة نشرها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بعنوان "الجذور التاريخية للقومية العربية"، نجده يبدو مؤمنا بأن الواقع المر في حال الأمة يمكن أن يخرج منه المرء ببصيص أمل، إذ ورد عنه: "لكني أعتقد أن وضع الأمة في فترة ما هو نهاية مرحلة في سيرها، وبداية الفترة التي تليها، ونقطة انطلاق إلى مستقبلها.. كما أن البناء القويم يوجب على الأمة أن تفهم ذاتها، وأن تدرك بعمق حاضرها، لتستطيع أن تخطط المستقبل بوعي".
القدرة على التمسُّك بالأمل، سمة أصيلة من سمات المؤرخ والمثقف عبد العزيز الدوري، الذي عاش زمنا عربيا بطوله وعرضه، وهو زمن تعس تفرقت فيه الأمة، وتاهت في هزائمها وقلما شهدت فيه انتصارات حقيقية، لذلك يبدو أن هذا الزمن كان سببا لديه في التزام وظيفته مؤرخاً ومعلم أجيال.
في جلّ إنتاج عبد العزيز الدوري، يمكن للقارئ أن يتلمس في خياراته التي اختارها رغبة خفية في إظهار الجانب المُشرق من تاريخ الأمة، وهذا الإشراق عنده كامن في التاريخ الثقافي وفي تاريخ البنى والمؤسسات الحضارية العربية، وفي التحقيق العلمي لكتب تضم ذخائر الأجيال الثقافية، لذلك فقد ألزم نفسه في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وعكف على تحقيق القسم الثالث من كتاب البلاذري "أنساب الأشراف"، الذي نشره المعهد الألماني كاملا عام 2009.
اشتبك الدوري بمسألتي الوعي والهوية العربية، وبقدر ما يرغب سواد المؤرخين العرب في أن يرونه محققا أو رائدا في التاريخ الاقتصادي ومناهجه، إلا أنه كان، يمارس عمل المؤرخين التقليدي، بالقدر الذي يحاول فيه أن يرى ويفسر المستقبل في الماضي، كان التاريخ عنده محل إحالة لأجل فهم المستقبل، مع التشبث بالبحث عن واجب الشرف للعروبة.
عرفنا شيخنا مؤرخا منضبطا، ومتزنا، ومتحوطا، وبرغم وداعته في المجالس الخاصة إلاّ أنه كان يثير خوف الطلبة في قاعة الدرس، وذات عصر كان المطلوب منا في مادة فلسفة التاريخ الحديث عن مصادر المادة، وأذكر أن جلّ الطلبة كانوا قد ارتكبوا حماقة الاستسهال فذهبوا لقوائم الكتب في المكتبة، وطبعوا العناوين دون معرفة ودراية بالمحتوى، وبدؤوا يلقونها وهو صامت، وحين جاء دوري وقال: تفضل يا سيد، بدأت أتحدث عن الكتب والدراسات وأمارس النقد على المؤلفات، ولم يكن ذلك الجهد ليتحقق في تلك المحاضرة لولا امتثالي لنصيحة الدكتور حسين القهواتي في جامعة آل البيت عام 1998، وهو الذي طلب مني إعداد دفتر يضم صفحة ونصف عن كل كتاب أقرأه في فلسفة التاريخ، وهكذا بدأت، واستمر العمل على إثراء الدفتر في مرحلة الدكتوراه وصولاً لعام 2001. وقرأت ملاحظاتي على مسمع الدوري في ذلك الدرس، ومارست نقدا على كتابه "بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب"، وقد قررت يومها أن الفرصة لن تعود، ولما أنهيت نظر في الطلبة الآخرين، وقال باللهجة العراقية: عيني أنتم خطية على جهنم ـــ يعني أنكم خسارة حتى في جهنم ـــ وطلب مني مرافقته للمكتب، وكانت بداية محبة كبيرة، لا يمكن لمقالة أن تلخصها، وحرصت بعدها على استمرار اللقاء ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
لقد كان الدوري معلما بحق، ومؤرخا ثبتا يغلب التحقيق والنقد على سرد البطولات والملاحم مفكرا في تاريخ الأمة، لا يميل إلى دراسة الملوك والزعماء، وهو الذي قال في رسالته المشار إليها عن "الجذور التاريخية للقومية العربية": "متى جرت الدراسة وراء أسر حاكمة وأفراد أفذاذ، فإنها تنحرف عن مسيرة الأمة، وتبعد عن الهدف المقصود منها".
ظل الدوري يلامس العروبة، حبا وعشقا ووعيا، وتوجيها للطلبة، وقد استطاع أن يظل على عروبته وعلى اتزانه ويقينه بعلمية التاريخ؛ فواظب على البحث والكتابة والتأريخ ـــ رغم مرضه وتدهور حالته الصحية ـــ محاولة منه للبحث عن مخرج من الراهن الصعب إلى أفق بأمل جديد.
فوداعا أيها الشيخ الكبير، فأنت ممن قال فيهم شاعرنا أبو الطيب:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
والله يا أبا زيد، كنت عين العراق البصيرة التي تحذر وتلتمس للعراق وللعرب البقاء والغد الأفضل، ولكنهم مع الأسف ما أبصروا وما سمعوا وما أرادوا لذلك سبيلا.
فسلام عليك وسلام على الدور مسقط الرأس وسلام على روحك التي برئت إلى ربها راضية مرضية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي