مكانة العمل المهني والحرفي في الإسلام
لا تزال شريحة كبيرة في مجتمعنا تنظر إلى العمل المهني والحرفي باعتباره "عيباً اجتماعياً"، فتساهم بذلك في تفاقم البطالة وفشل "السعودة"، ومن أهم الوسائل لتجاوز هذه النظرة السلبية، عودتنا وأبنائنا إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله – صلى الله عليه وسلم – في هذه المسألة.
قال تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، والخلافة لا تتحقق إلا بالعمل؛ كأساس في عمارة الأرض، ونشر التوحيد وتطبيق الشرائع.. ولتحقيق ذلك سخر الله الأرض ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ؛ مُنقادة لنا نمشي في طرقها وفجاجها للتكسّب، وهذا حثّ واضح على العمل؛ أياً كان نوع هذا العمل، بدءاً من تنظيف الشارع إلى القمة.. هذا في مصنعه، وهذا في مزرعته أو تجارته، وذاك في مهنته أو في حرفته.. فالله، "يحب المؤمن المحترف" (الطبراني)، إذ إن الإسلام لم يعرف ما شاع بين الناس في زماننا من احتقار لبعض الأعمال؛ فكل عمل له قيمته في نظر الإسلام، لا بل أمر الله عباده موجهاً: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، أي، إذا انتهيتم مما افترضته عليكم فانتشروا لطلب الرزق.. وروي عن بعض السلف أنه قال: من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة! (ابن كثير)، أليست دعوة صريحة للعمل، لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وقضاء الحوائج وإعالة الأهل (القرطبي)، وخدمة المجتمع والدين، وتحقيق لليد العليا التي تعطي؟ ولا يتحقق ذلك إلا من خلال بذل الجهد في طلب الرزق، وهذا الجهد مُثاب عليه المسلم في الدنيا، إذا أتقن عمله وأراد به وجه الله تعالى، كذلك مثاب عليه في الآخرة، كيف لا.. والعاملون إنما يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، أي يبتغون المكاسب.. لا بل، وفي تكملة هذه الآية، أَعذَرهم الله، من الإطالة في قيام الليل! (ابن كثير) فخفّف عنهم، وهم يرعون مكاسبهم الدنيا، فكان هذا دليلا على أن كسب المال عبادة بمنزلة الجهاد (القرطبي)، فيا الله ما أحكمك وأحلمك!
ويُروى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نظر يوماً إلى يدٍ تورَّمت من العمل، فقبّلها وقال: "هذه يد يُحبها الله ورسوله"! وهو القائل: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه" (البخاري)، لا بل: "إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا السعي على الرزق"! (ابن ماجه)، وسَأَل – صلى الله عليه وسلم – يوماً عن أحد أصحابه، فقال له إخوته: هو يصوم ويقوم، فقال: "فمن يُطعمه ويكسوه؟ قالوا: كلّنا، قال: كلكم خير منه"! وهذا تمييز صريح للعامل المجد عن الكسول المتكل.
يقول الدكتور عزّت جرادات: وجُعل للعمل اليدوي قدسية، وشتان بين قيمة اجتماعية قبل الإسلام تجعل أحد الشعراء يسخر من غريمه بأن جده كان حداداً، وبين قيمة اجتماعية إسلامية تجعل المهنة اليدوية مهنة الأنبياء.. وقد قال نبينا – صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاماً خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" (البخاري)، ولعل حكمة الله لخلقه أن كان أنبياؤه، وهم أفضل الخلق، يفتخرون بالمهن والصناعات التي كانوا يقومون بها، فقد ذَكر الحاكم عن ابن عباس: أن داود كان زراداً، وكان آدم حراثاً، وكان نوح نجاراً، وكان إدريس خياطاً، وكان موسى راعياً، وعمل نبينا – صلى الله عليه وسلم – بالرعي والتجارة.
إذاً، الإسلام يحارب البطالة، والحل هو: التأسي برسل الله وأنبيائه الكرام - صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وبصحابة رسولنا – صلى الله عليه وسلم، فها هو عبد الرحمن بن عوف، حين قدم المدينة مهاجراً راح يسأل: "دلوني على السوق"!
إنها دعوة لأبنائنا أن يشمّروا عن سواعدهم، وينزلوا إلى السوق، ويخوضوا غمار العمل المهني والحرفي، بعد أن يرفعوا عنهم حُجُب الترفّع الزائف، الناتج عن قيم موروثة ما أنزل الله بها من سلطان، بل أنزل في كتابه الكريم إشارات إلى أكثر من 70 حرفة، تجعل أصحابها يمسون وقد أصبحوا عيناً على التخلف لا عينَ التخلف، مغفوراً لهم، بإذن الله، لقول حبيبنا – صلى الله عليه وسلم: "من أمسى كالاً (متعباً) من عمل يده أمسى مغفوراً له" (الطبراني).