تصميم انهيارات أمنية واقتصادية وسياسية في الدول المعادية
كشفت حالات التجسس الاقتصادي بين الدول والشركات عن حقيقة مهمة مفادها أن التجسس الاقتصادي قد انتشر مع تزايد موجات العولمة والتحرير الاقتصادي في العالم، مما دفع البعض إلى وصف العولمة الاقتصادية بأنها "عولمة التجسس الاقتصادي" وجعل البعض الآخر يصف التجسس الاقتصادي بأنه تجسس اقتصادي عالمي. وقد أظهرت الدراسات في هذا المجال أنه مع زيادة التنافس بين الدول والشركات زادت نفقاتها على التجسس الاقتصادي وجمع المعلومات عن الأسواق والشركات المنافسة محليا ودوليا، وفي بعض الحالات وصل ما تنفقه الشركة الواحدة على عمليات التجسس الاقتصادي أكثر من مليار دولار سنويا.
قد تكون اعترافات المتهم المصري في شبكة تجسس التي تعمل لحساب المخابرات ''الإسرائيلية'' الموساد، هي رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته الكثير من المعلومات والحقائق التي تخفيها الجاسوسية الجديدة التي تطل برأسها مع التوسع في ثورة التقنية والاتصالات التي أصبح كثيرون يقومون بدور الناقل فيها للمعلومات عبر شبكات الإنترنت أو الهواتف المحمولة دون أن يعرفوا أنهم يخدمون أهداف استراتيجية سياسية واقتصادية تخدم بعض الجهات دون وعي مسبق. ولعل ما حدث في مصر أخيرا يؤكد أن الإضرار باقتصاديات الدول العربية عن طريق اختراق الإنترنت عبر تغذية الشبكة بمعلومات خاطئة بغرض إلحاق أضرار بالغة بالاقتصاد العربي، يشكل هدفا استراتيجيا يسعى الآخرون للوصول إليه.
ففي العقود الأخيرة ظهر مفهوم جديد للتجسس يتجاوز المفهوم العسكري والسياسي، ويركز على الجوانب الاقتصادية للدول ويحاول معرفة ما يدور في كواليس العمل الاقتصادي، سواء في مجال التجارة الخارجية، أو التجارة الداخلية، أو الإنتاج والتسويق والتكنولوجيا وبراءات الاختراع والعلامات التجارية وغيرها.
وليس أدل على ذلك من دعوة رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين أخيرا جهاز الاستخبارات الخارجي ''أس في آر'' إلى تنشيط التجسس الاقتصادي للمساهمة في تحديث روسيا. ونقلت وكالة ريا نوفوستي عن بوتين قوله ''هناك أنشطة مختلفة لأجهزة الاستخبارات: التجسس التقني العلمي، والتجسس السياسي: لذلك وبما أن لدينا أهدافا في مجال التحديث الاقتصادي، فإن أي مساعدة من قبل أجهزة الاستخبارات في هذا المجال تبقى موضع ترحيب''.
في عصر العولمة أصبح العالم وكأنه بمثابة القرية الصغيرة، وأصبح من المعتقد أن كل شيء معروف، وأن الأقمار الصناعية يمكن لها أن تصور كل شيء يدب على الأرض حتى النملة، ولكن يبقى السؤال المركزي هل تستطيع التقنية الحديثة أن تسمع وترى ما يدور في عقول البشر؟ بالضرورة ستكون الإجابة بالنفي. وهذا النفي يستتبعه وجود عديد من الأسرار التي يسعى البعض للحصول عليها، في المجالات السياسية والاقتصادية، ففي المجال الاقتصادي يمكن ـ من خلال المعلومات والتصميمات والرسومات المتعلقة بالمشاريع الاقتصادية ـ لإحدى الشركات العالمية اكتساح الأسواق في العالم محققة أرباحا هائلة، إذ تمكنت هذه الشركة من الحفاظ على سرية هذه المعلومات والتصميمات والرسومات.
أما إذا تسربت هذه الأسرار إلى الشركات المنافسة فإن سيطرة هذه الشركة على الأسواق العالمية تنهار، مما يعطي للمنافسين فرصة لتحقيق أرباح كبيرةز ومن هذا المنطلق ولدت أشكال جديدة للتجسس من ضمنها التجسس الاقتصادي كمفهوم جديد في عالم الاقتصاد الدولي الراهن وفي عالم المخابرات، وأصبح يستخدم في مجال الصراع السياسي والاقتصادي بين الدول والشركات والأفراد. وقد تنوعت مجالات هذا التجسس لتغطي جميع مجالات النشاط الاقتصادين إنتاجي، وتسويقي، وتكنولوجي وغيرها من المجالات. وقد كشفت حالات التجسس الاقتصادي بين الدول والشركات عن حقيقة مهمة مفادها أن التجسس الاقتصادي قد انتشر مع تزايد موجات العولمة والتحرير الاقتصادي في العالم، مما دفع البعض إلى وصف العولمة الاقتصادية بأنها ''عولمة التجسس الاقتصادي''، وجعل البعض الآخر يصف التجسس الاقتصادي بأنه تجسس اقتصادي عالمي. وقد أظهرت الدراسات في هذا المجال أنه مع زيادة التنافس بين الدول والشركات، زادت نفقاتها على التجسس الاقتصادي وجمع المعلومات عن الأسواق والشركات المنافسة محليا ودوليا، وفي بعض الحالات وصل ما تنفقه الشركة الواحدة على عمليات التجسس الاقتصادي أكثر من مليار دولار سنويا.
ويتجلى ذلك جيدا في موضوع المواجهة الاقتصادية، عن ميدان المعلومة. وبصفتها قطاعات حساسة فإن قطاعات التأمين، والبنوك، وفحص الحسابات، والمجلس، هي المستهلكة الكبيرة للمعلومات الاستراتيجية.
فمنذ أوائل التسعينيات أعد معهد الدراسات العليا للأمن الداخلي الفرنسي THESI تقريرين لا يزالان تحت بند السرية حول التأمينات والتوظيف يحذر فيهما المؤسسات والسلطات العامة من ظاهرة التركيز ـ التي تمنح امتيازات لانجلو سكسونيين يدخلون على المعلومات الحساسة والتي تخضع لحماية المؤسسات الفرنسية والأوروبية. ويتركز القلق حاليا في مجال فحص الحسابات والاستشارة. ومرة أخرى يكشف خبراء الاستخبارات الاقتصادية ويتهمون التركيز الواقع بين أيدي الأمريكيين للشركات الرئيسة في هذا المجال، مما يشكل مصدر معلومات فريدة حول ''الحالة الصحية'' للمؤسسات. وبشراء مكتبٍ SALUSTRO REYDEL من قبل الأمريكي KPMG، لم يبقَ إلا المكتب الفرنسي MAZARS ليمثل تنوعاً في العروض.
وماذا نقول أيضا عن شراء مكتبKROLL الرائد العالمي في الاستقصاء التجاري من قبل شركات MARCH MCLENNAN الأمريكية؟ والذي يمتلك مجموعة كبيرة من الشركات، الأولى في العالم في هذا المجال، وشركةPUTMAN ذات الرأسمال الاستثماري، وشركة MERCER، التي تعد بين المؤسسات الاستثمارية الرائدة صاحبة رأسمال قيمته 11.5 مليار دولار.
مما يجعل من شركات MARSH MCLENNAN الرقم الأول في العالم لإدارة الأزمات.هناك أيضاً جبهة أخرى مفتوحة في هذا القطاع: هي المعركة الدائرة حول معايير المحاسبة الدولية. حيث أظهرت عدة مؤسسات أوروبية استياءها من المحاولات الأنجلوسكسونية لفرض معاييرها عبر الهيئة المكلفة بتقديم الاقتراحات في ذلك المجال LASB ''أنجلوسكسونية''، وعلى الرغم من اعتزاز رئيسها باستقلالية وشفافية المؤسسة بقوله إن هناك خمسة أوروبيين من أصل 14, فهو لا يوضح وجود عشرة أنجلوسكسونين بينهم خمسة أمريكيين. ويكتب اقتصاديون أوروبيون قائلين ''إن المحاسبين ومأموري الحسابات سيكتشفون أنه من مصلحة الجميع الحفاظ على LASB، لكن مع توسيع تشكيلتها وتحسين شفافيتها''. تحتدم المعركة في مجال المحاسبة, المواصلات, البنوك والتأمين... إلخ, وتبلغ ذروتها. إن الأمر بالنسبة للأمريكيين يتعلق (غالباً ما يكونون على رأس الصراع) بتطويع وتشكيل العالم على صورة بلادهم.
وتلك هي نظرية تشكيل العالم SHAPING THE WORLD كما طرحها الرئيس كلينتون في خطابه عام 2000 حول وضع الاتحاد حيث يقول: ''لاقتناص كل فرصة تتاح لاقتصادنا، يجب علينا تجاوز حدودنا وتشكيل الثورة التي تقضي على العقبات وتقيم شبكات جديدة بين الأمم والأفراد، والاقتصاديات والحضارات: أي العولمة''. إلى أبعد من الحفاظ على المصالح الاقتصادية، تقاوم كل دولة لإنقاذ نموذجها الاجتماعي الثقافي.
وإذا كانت الحرب الباردة قد انتهت بسقوط حائط برلين، فإن حرباً جديدة أخرى تلوح في الأفق, وتلك هي التي تتصارع فيها القيم الأمريكية والأوروبية والآسيوية والعربية، حيث إنهم لا يتقاسمون النظرة ذاتها للعالم. حيث لا يلتقي الأمريكيون والأوروبيون مع الآسيويين والعرب في الرؤية ذاتها للعالم. وليس غير السوق الاقتصادية لفرض القيم الخاصة بكل واحد عبر إعادة تكوين المستهلكين.
وليس الاقتصاد والسياسية وحدهما هما الأهداف التي يسعى إليها من يبني شبكات التجسس، بل ثمة منظومة أشد خطرا تعترض مجتمعاتنا، يستهدفها العمل الاستخباري وهي المنظومة القيمية والدينية التي تحكم سلوك الأفراد والمجتمعات في بلادنا، ولعل اعترافات المتهم طارق عبد الرازق، والتحقيقات التي تجريها نيابة أمن الدولة العليا تؤكد أن ''الموساد'' سعى لاستغلال الإنترنت في تشويه مفاهيم علمية وتراثية والعقائد الدينية عن طريق دس معلومات مشوهة على الإنترنت.
إن الشكل الجديد في أنشطة التجسس الاقتصادي والسياسي يؤكد على أن المنطقة العربية ليست بمأمن من هذا الخطر الذي يستخدم وسائل وأساليب جديدة غايتها تحقيق أهداف سياسية واقتصادية على المديين القريب والبعيد للدول التي تزرع تلك الشبكات. الكشف عن الجاسوس المصري أكد أن تجنيد الجواسيس لم يعد يقتصر على الأشخاص الذين يشتغلون في مواقع حساسة، وفي الوقت ذاته يكشف عن تغير في استراتيجية التجسس ذاتها عندما أصبحت كل شرائح المجتمع هدفا لعمليات التجسس. ويكفي لتحقيق هذا الهدف أن تضع إعلاناً عبر شبكة الإنترنت عن وظائف شاغرة في جميع التخصصات، ويقوم الجاسوس بمسؤولية الإشراف على إعداد تقارير عن طالبي العمل، وظروفهم الاجتماعية، ومؤهلاتهم العلمية سعياً إلى تجنيدهم. وهذا التغيير سيؤدي إلى ظهور شبكات تجسس غير تقليدية وفي أماكن كثيرة ومختلفة داخل البلاد العربية والإسلامية. وإذا كانت المخابرات وأجهزة أمن الدولة ستراقب أصحاب المناصب الحساسة والوظائف المهمة، فهي بالطبع لن تستطيع أن تضع الشعب كله تحت المراقبة، مما يجعل متابعة هذه الخلايا التجسسية غاية في الصعوبة!
ويقول جيرالد نيرو الأستاذ في كلية علم النفس في جامعة بروفانس الفرنسية، وصاحب كتاب (مخاطر الإنترنت): بعض المواقع الإلكترونية ذات الطابع الاجتماعي عبارة عن مجموعة شبكات يديرها مختصون نفسانيون إسرائيليون مجندون لاستقطاب شباب العالم الثالث وخصوصا المقيمين في دول الصراع العربي - الإسرائيلي، إضافة إلى أمريكا الجنوبية. ويضيف: ربما يعتقد بعض مستخدمي الإنترنت أن الكلام مع الجنس اللطيف مثلا، يعد ضمانة يبعد صاحبها أو يبعد الجنس اللطيف نفسه عن الشبهة السياسية، بينما الحقيقة أن حوارا هكذا هو وسيلة خطيرة لسبر الأغوار النفسية، وبالتالي كشف نقاط ضعف من الصعب اكتشافها في الحوارات العادية الأخرى، لهذا يسهل ''تجنيد'' العملاء انطلاقا من تلك الحوارات الخاصة جدا، حيث تعتبر السبيل الأسهل للإيقاع بالشخص ودمجه في عالم يسعى رجل المخابرات إلى جعله ''عالم العميل''. التي كانت صحيفة ''الحقيقة الدولية'' نشرتها في عددها (111) الصادر بتاريخ التاسع من نيسان (أبريل) 2008. وأكد تقرير ''الحقيقة الدولية'' الذي كان تحت عنوان ''العدو الخفي'' أن الثورة المعلوماتية التي جعلت من عالمنا الواسع قرية صغيرة، رافقتها ثورات أخرى جعلت من تلك القرية محكومة من قبل قوة غير مركزية أقرب ما تكون إلى الهلامية، تؤثر في الواقع ولا تتأثر به.
وأضاف تقرير الصحيفة أن ''الإنترنت التفاعلي'' شكّل بعد انتشاره عالميا واحدا من أهم أذرع تلك القوة اللامركزية التي بدأت بتغيير العالم بعد أن خلقت متنفسا للشباب للتعبير من خلاله عن مشكلات الفراغ والتغييب والخضوع والتهميش، والتمدد أفقيا وبصورة مذهلة في نشر تلك الأفكار والتفاعل معها عربيا ودوليا.
كما أن اللجوء إلى تلك القوة بات من المبررات المنطقية لإحداث التغيير الذي يلامس الواقع الشعبي وربما السياسي، كما حصل من دعوات للعصيان المدني نشرت على بعض الموقع الاجتماعية. والمثير في هذه المتسلسلة العنكبوتية أن المتلقي العربي الذي ما تعود على مثل هذه التحركات التغييرية، انساق وراء الدعوات التي أطلقتها جهات لا تزال مجهولة، وتحولت أدوات الاحتلال والتغيير التي كانت تملكها القوى العظمى من تلك التي عرفها العالم طوال السنوات الماضية إلى أدوات جديدة تجعل من تلك القنوات التفاعلية على الشبكة العنكبوتية وسيلة مؤثرة تتحكم بها في الوصول إلى التغييرات المطلوبة.
وحتى نكون منصفين مع أنفسنا لا بد من الحديث عن أن منظومة القيم التي تعيشها مجتمعاتنا قد شابها الكثير من التغييرات السلبية، ولهذه التغييرات ما يبررها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فالمنطقة العربية ترتفع فيها معدلات البطالة والفقر مما ينعكس سلبا على الشباب العربي ويؤدي إلى زعزعة مفهوم القيم الوطنية والدينية عند البعض منهم، ويجعل منهم فريسة سهلة لتوريد المعلومات بحيث تصبح في المستقبل أداة لتطويع السياسات الاقتصادية والسياسية للدول المستهدفة.