كل الأماكن
عولمة الأمكنة مثل المطارات وسلاسل الفنادق والمطاعم والبضائع, ليست المظاهر الوحيدة التي تصب في قوالب التشابه والتماثل، بل إن الأمر بات يؤثر في تصرفات البشر. فكما نرى الكثير من الأماكن المتشابهة في مختلف البلدان، باتت هناك طبائع مشتركة لطبقة من رجال الأعمال الجوالين حول العالم. ففي قاعات الانتظار الفاخرة في المطارات, كثيرا ما نلاقي أصحاب الياقة البيضاء المهندمين والمزودين بأحدث أجهزة التكنولوجيا، وهم يقضون ساعات على شاشة الكمبيوتر أو هواتفهم المحمولة، يحاولون التواصل مع أعمالهم وزبائنهم المنتشرين في أنحاء مختلفة من العالم.
هذه الفئة المعولمة من الشخصيات باتت تحتوي في طياتها الكثيرين ممن يشتغلون في أعمال الاستشارات والاستثمار والتدريب والوساطة بكل أنواعها والمحاماة, إعلاميين, مديرين في الإعلان وتطوير الأعمال والكثير من النشاطات. وفي الواقع هم في كل الأماكن وفي اللا مكان, بمعنى أنهم في الصباح في مدينة نيس الفرنسية لحل مشكلة صغيرة مع أحد الزبائن، وفي العصر في موعد مع أحدهم في برلين، وعليهم أن يلحقوا بطائرة منتصف الليل المتجهة إلى طوكيو لحضور اجتماع شركتهم الربع سنوي, وبعد يومين سينطلقون إلى بيروت لإنهاء قضية عالقة مع عميل غاضب، وهكذا دواليك تمر الأيام والأسابيع في دوامة السفر والمواعيد، وتكون حقيبة سفرهم هي رفيقهم الدائم في حلهم وترحالهم، إضافة إلى آخر صرعات تكنولوجيا الاتصالات من هواتف وكمبيوترات.
وأهم ما يميزهم شبكة العلاقات الواسعة التي تربطهم بأناس في معظم مناطق العالم، حتى إن الكثيرين يكونون متآلفين مع أشخاص يبعدون عنهم آلاف الأميال، ولا تربطهم أي علاقة بجيرانهم في المسكن المجاور.
ويشعر وسيط في بورصة لندن بأواصر قربى تربطه بزملائه في هونغ كونغ, امتن من تلك الروابط التي تجمعه مع موظفين في المصارف اللندنية. وعادة ما نلاحظ أن الكثير منهم يعدون أنفسهم بأنهم مواطنون عالميون منفتحون على كل المناطق الجغرافية حول الكرة الأرضية ولا يعترفون بأي حدود من أي نوع, لكنهم في المقابل يتناسون أن علاقاتهم تبقى محصورة في إطار أعمالهم، والمسافات الشاسعة التي يقطعونها لا تعني بالضرورة معرفة وافية بمعظم الأماكن التي يزورونها للعمل.
إنهم يجوبون قارات العالم لكنهم يبقون حبيسي غرف فنادقهم. في إطار آخر تكون تلك الشريحة محط حسد من بعض زملاء الدراسة أو المعارف، حيث إنهم لا يرون سوى المظاهر التي تقول إنهم يجوبون العالم ولا يعانون من روتين الأعمال المكتبية، إضافة إلى الأجور العالية وبدلات السفر التي تسّيل لعاب الكثيرين.
إنهم يجوبون عالما فسيحا لكنهم سجناء مطارات وسلسلة فنادق ومطاعم تفتقر للنكهة المميزة، وغرف مكيفة لم يدخلها الهواء الطبيعي منذ زمن ليس بالقصير، ورغم تحليق أجسامهم في رحابة الأرض والجو, لا يبدو أن عقولهم تستطيع أن تغادر مقصورة أجندة أعمالهم، ورغم أن الواحد منهم يرى معظم العالم لكنه في الواقع لم يرَ إلا ما كان قد رآه سابقا. ويبدو أن هذا الشكل من التنقل هو ما سيكون مستقبل الأعمال التي تحاول أن تسابق الزمن لإنجاز الأشغال وبسط النفوذ وقطع الطريق على المنافسين.
"الذين يعتقدون أن المال كل شيء يفعلون لأجله أي شيء". مثل قديم