المملكة أمام أهم تحدياتها الاقتصادية .. دمج القطاع الخاص في التنمية وتوسيع الطبقة المتوسطة

لغرض هذا البحث يمكن النظر إلى العلاقة الاقتصادية بين المواطن والدولة من عدة زوايا:
الزاوية الأولى: هي قيام الدولة بواجبها نحو توفير الأمن وتطبيق القوانين والدفاع عن الحدود. وهذا الموضوع الذي يشكل الجزء الأكبر من الميزانية ويتناول الدفاع والأمن (بما في ذلك الأمن الفكري) ممثلاً بوزارة الداخلية، والإعلام، والثقافة، والاستخبارات العامة، والحرس الوطني، والعدل، يعتبرخارج نطاق هذا البحث.
الزاوية الثانية: هى التزام الدولة تجاه تلبية احتياجات مواطنيها الصحية والتعليمية والاجتماعية. وتبرز أهمية هذا الجانب في السعودية كون المصدر الرئيس لدخل الدولة هو البترول والغاز والموارد الطبيعية الأخرى والصناعات المنبثقة عنها، إلا أن هذا الدور يواجه عدداً من التحديات منها أن انخفاض الطلب على البترول ومن ثم انخفاض أسعاره، قد يجبر الدولة على عدم القدرة على الاستمرار في تقديم هذه الامتيازات، لكن وجود أرصدة فائضة مستثمرة لدى الدولة في الوقت الحاضر تفوق 400 مليار دولار(1.5 تريليون ريال) يخفف إلى حد ما من هذه المخاطر.
كما أن هناك نقاش دائم حول مدى أهلية هذا الجيل الحالي للتمتع بالثروات الموجودة على حساب الأجيال القادمة. هذا التحدي تقابله حزمة من الهياكل الأساسية والأنظمة، والتجهيزات التعليمية والصحية، والمؤسسات الأخرى المتوارثة، والعلاقات المتينة مع الجيران التى ستتحول للأجيال القادمة لتوفر لها بيئة مناسبة من الأمن والاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي والانسجام الاجتماعي لكي تستمر في البناء.
الزاوية الثالثة: هي الشراكة بين القطاع العام (الدولة) والقطاع الخاص (الأهلي) لتحقيق عدد من الأهداف منها:
1ـ إيجاد طبقة متوسطة واسعة لتعميم الرخاء الاقتصادي وتحقيق السلام الاجتماعي والانسجام السياسي والاستقرار الأمني.
2 ـ إنشاء وتطوير وحدات اقتصادية من مؤسسات وشركات مساهمة تستطيع تنفيذ ما يوُكل إليها من المشاريع الحكومية بكفاءة واقتدار، والمنافسة على المستويين المحلي والدولي في ظل سياسات الانفتاح الاقتصادي.
3 ـ إدارة المرافق العامة والخدمات بكفاءة أكثر وتكلفة أقل.
4 ـ إيجاد وظائف لأفواج المواطنين (ذكور وإناث) الذين يدخلون سوق العمل سنوياً، حيث يتوقع أن ترتفع نسبة البطالة من 9.9 في المائة في عام 2008 إلى 10.8 في المائة في عام 2011، وقد تصل النسبة إلى أكثر من ضعف ذلك بين النساء.
وقبل أن نتناول هذه الزاوية الأخيرة بشيء من التحليل، دعونا نراجع بعض ملامح الميزانية المعلنة.

ملاحظات على الميزانية العامة
لعام 1432/1433 (2011)
1ـ إن أول ملاحظة هي الرقم الهائل للفائض في إيرادات الدولة في نهاية عام 2010 الذي بلغ 108.5 مليار ريال أو ما نسبته 23 في المائة من الإيرادات التي قدرتها الميزانية في عام 2010, وذلك عوضاً عن عجز كان مقدراً في حدود 70 مليار ريال. يضاف إلى ذلك الارتفاع الكبير في المصروفات الفعلية التي ارتفعت بنسبة 16 في المائة مقارنة بمتوسط ارتفاع نسبته 14 في المائة من الميزانيات المعلنة منذ عام 2002.
ومن التجارب السابقة فإن الأرقام النهائية للمصروفات تزيد في العادة بمعدل 3.6 في المائة سنوياً، ولاشك أن هذه الزيادات لها ما يبررها, حسبما أشار بيان وزارة المالية, إلا أن ذلك قد يقود المراقب الخارجي إلى التشكيك في مدى دقة أرقام الميزانيات التي تعلن كل عام.
2 ـ نتيجة لارتفاع دخل الدولة جراء ارتفاع أسعار البترول فقد زادت المصروفات على الحدود المقدرة لها وهي 540 مليار ريال، إلى 626.5 مليار ريال أي بما نسبته 8 في المائة، ومن هذه المصروفات 256 مليار ريال أو في حدود 40 في المائة خصصت للمشاريع بهدف تحريك الاقتصاد وتنويع قاعدته وتشجيع القطاع الخاص في الوقت الذي كان الاقتصاد العالمي يعاني الركود.
3 ـ إن الزيادة في المصروفات ومن ثم زيادة عدد المشاريع التي استحدثت في عام 2010 قد حدثت دون زيادة ملحوظة في معدل التضخم، حيث أشار بيان وزارة المالية إلى أن هذا المعدل بلغ 3.7 في المائة مقارنة بـ 5.1 في المائة في عام 2009 و11 في المائة في عام 2008. ويعود السبب في ذلك بشكل رئيس إلى انخفاض الأسعار العالمية بشكل عام نتيجة لتباطؤ الاقتصاد العالمي.
4 ـ صاحب هذه الزيادة في المصروفات ومن ثم الزيادة في المشاريع التي استحدثت عام 2010 انخفاض في مديونية الدولة بنسبة 26 في المائة حيث أصبح 167 مليار ريال أو ما يعادل 10.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 1.63 تريليون ريال (435 مليار دولار). ومعلوم أن مديونية الدولة كانت موضوعاً ساخناً خلال الخمس وعشرين سنة الماضية، حيث جادل كثيرون بأن مديونية الدولة تؤدي إلى مزاحمة القطاع الخاص على القروض، ومن ثم زيادة سعر الفائدة مما يؤدي إلى نقص الاستثمار وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي.
5 ـ رغم أن رقم المصروفات المتوقعة لعام 2011 قفز مما كان مقدراً له عام 2010 بمبلغ 540 مليار ريال إلى 580 مليار ريال في عام 2011, إلا ان هذا الرقم هو أقل من المصروفات الفعلية لعام 2010 بمبلغ 46 مليار ريال. وما يهمنا في هذا البحث هو أن المصروفات الرأسمالية التي كانت مقدرة في عام 2010 بمبلغ 260 مليار ريال انخفضت إلى 256 مليار ريال، وهو ما يقارب 44 في المائة من حجم المصروفات، أو 14.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وربما يعود سبب هذا الانخفاض إلى عدة عوامل منها:
ـ رغبة الدولة في تهدئة الوضع خوفاً من بروز بعض الاختناقات نتيجة للحجم الكبير لتلك المشاريع ومن ثم المصروفات، مما يؤدي إلى تزاحم المشاريع في الوقت الذي يستأنف فيه الاقتصاد العالمي نموه.
ـ أن المصروفات الرأسمالية تتطلب مدداً أطول من السنة المالية، وقد تمتد إلى ما بين ثلاث إلى خمس سنوات لاستكمالها.

الشراكة بين القطاعين العام (الدولة) والخاص (الأهلي)
منذ بداية النهضة الحديثة للمملكة عملت الدولة على إيجاد، ومن ثم دعم القطاع الخاص الذي لم يكن ذا وجود يذكر. وقد استمر هذا الهدف ضمن أولويات صانعي القرار الاقتصادي, وذلك عن طريق المشاركة والتمويل الميسر والمعاملة التفضيلية والزيادة المضطردة في الطلب الحكومي على السلع والخدمات الذي يصل حالياً إلى 40 في المائة من الطلب العام.
لذا نرى أن مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي قد قفزت من 17 في المائة في عام 1975 إلى نحو 48 في المائة هذا العام (2010). والأهم من ذلك أن نصيبه من الناتج المحلي الإجمالي ينمو في كثير من الأحيان بمعدلات أعلى من المعدل العام للنمو. ويعزى ذلك إلى الارتفاع المستمر في الطلب الحكومي، وسهولة الحصول على القروض من الصناديق الحكومية المتخصصة، وتمتع البنوك التجارية السعودية بسيولة عالية ومستويات مريحه من رؤوس الأموال تصل نسبتها حالياً إلى 16.5 في المائة حسب تعريف لجنة بازل، مقارنة بأقل من 6 في المائة لمعظم البنوك الدولية الرئيسة مما يدفع البنوك السعودية للتوسع في منح القروض.
ومن التطورات المهمة ذات العلاقة بموضع بحثنا والتي أشار إلى بعضها تقرير وزارة المالية حول الميزانية ما يلي:
1 ـ بلغ مجموع ما صُرف من قروض من قبل البنوك والصناديق المتخصصة التابعة للدولة بما فيها صندوق الاستثمارات العامة وبرامج الإقراض الأخرى منذ بداية برامج إقراضها حتى نهاية عام 2010 ما مجموعه 414.3 مليار ريال سعودي. ويتوقع أن تقوم هذه الصناديق بصرف مبلغ 47 مليار ريال في عام 2011 أي ما يوازي 15 في المائة من مجموع ما صرفته منذ إنشائها.
2 ـ بلغ مجموع القيمة السوقية للشركات المساهمة التي تتداول أسهمها في السوق المالي السعودي 1.2 تريليون ريال (320 مليار دولار) في نهاية عام 2009 تمتلك الدولة على سبيل المثال حصة مؤثرة في رؤوس أموال أربع من أكبر خمس شركات من هذه الشركات المساهمة، كما كان للدولة دور ريادي في إنشاء العديد من الشركات إما مباشرة أو مشاركة مع القطاع الخاص.
3 ـ تمتع المملكة بتصنيف إئتماني عال من هيئات التصنيف الرئيسية منها (أأ)، ومستقرة من قبل هيئة ستاندارد آندبورز و(أْْء)، ومستقرة من قبل مؤسسة موديز. كما حصلت المملكة من البنك الدولي على المرتبة (11) من بين 183دولة من حيث ملاءمة مناخ الاستثمار، كل ذلك يعطي القطاع الخاص السعودي ميزة نسبية عند اللجوء للاقتراض من البنوك الدولية.
4 ـ كما أن هناك موضوعين يؤثران تأثيراً كبيراً في الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص لكنهما لم يلقيا حظهما من النقاش، ومن ثم إصدار الأنظمة واتخاذ القرارات الهادفة لمعالجتهما:-
الموضوع الأول يتعلق بالمعاناة التي تمر بها شركات المقاولات أثناء انخفاض أسعار البترول وانخفاض الطلب عليه وبالتالي انخفاض المصروفات الحكومية على المشاريع، فكما حصل في موجات التباطؤ الاقتصادي السابقة تقوم البنوك بالضغط على المقاولين لتسديد ما عليهم من ديون في الوقت الذي تتأخر الدولة في تسديد مستحقات هؤلاء المقاولين، أو أن المشاريع تجف كلية، فلم يكن أمام هؤلاء المقاولين إلا بيع معداتهم بأبخس الأثمان وتصديرها للخارج مما يؤدي إلى وقف نمو قطاع المقاولات، والبدء من جديد بإنشاء شركات مقاولات جديدة وشراء معدات جديدة بأعلى الأسعار عندما تأتي الطفرة مرة أخرى.
لذا نرى تركز المقاولات حالياً في عدد محدود جداً من الشركات بسبب عدم قدرة الشركات والمؤسسات الأخرى على الاستمرار أثناء الانحسار الاقتصادي. على الدولة بالتعاون مع المقاولين ومع البنوك التجارية، دراسة هذا الموضوع ووضع حل له قابل للتنفيذ ويحفظ للبلاد ثرواتها ويضمن نماء مؤسساتها.
الموضوع الثاني يتعلق بالمؤسسات الاقتصادية الخاصة نفسها، فرغم النقاشات المستمرة، والأنظمة المشددة حول الحكومة، والشفافية، وحسن الإدارة، إلا أن الملاحظ كثرة انفراط عقد الشركات والمؤسسات العائلية لمجرد أن يتوفى أحد المؤسسين مما يعرض هذه العائلات لمعاناة كبيرة ومستمرة ويحرم البلاد من خدمات وخبرات وإمكانات مؤسسات اقتصادية كبيرة تعب مؤسسوها على بنائها حتى اكتسبت خبرات متعددة وسمعة دولية، ورعتها الدولة بالقروض والمعاملة التفضيلية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
والمطلوب أن تقوم الدولة بوضع أنظمة تمنع تفكك هذه الشركات والمؤسسات وتضمن استمرارها في أداء دورها الاقتصادي الذي حدده مؤسسوها.
5 ـ من إفرازات الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم خلال السنوات الثلاث الماضية، بروز الدولة كقائد ومحرك للاقتصاد، إلا أن الدول في منطقة الخليج، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، كانت دائماً هي القائد والمحرك للنشاط الاقتصادي رغم أن العالم شهد خلال السنوات الثلاث الماضية توجهات نحو الخصخصة وتقليل دور الدولة في الحياة الاقتصادية.
وقد ساهمت الأزمة الاقتصادية لاحقاً في تعزيز هذا الدور، لذا اختفى أي نقاش جدي حول الخصخصة، ولم تتضمن ميزانية هذا العام أية إشارة إلى هذا الموضوع. بل وأكثر من ذلك نجد أن مشروع السكك الحديدية يقام كمشروع حكومي، وتفشل شركات طيران اقتصادي أقامها القطاع الخاص بسبب الميزات التي تعطى لشركة الطيران الوطنية الحكومية، ومازالت الدولة تحتفظ بنسبة كبيرة من رؤوس أموال عدد من البنوك والشركات الصناعية والخدمية. قد يكون الوقت قد حان لإعادة النظر في هذا التوجه وخصوصاً أن القطاع الخاص يتمتع بملاءة مالية عالية وسيولة كبيرة نتيجة لتخوفه من الاستثمار الخارجي. وطالما أن السوق المالية السعودية أصبحت متطورة لابد أن تتنوع وتتوسع أدواتها الاستثمارية لكي تستوعب نسبة كبيرة من الثروات الخاصة.

الملخص والتوقعات
1ـ يتوقع زيادة معدلات نمو الاقتصاد العالمي في عام 2011 وبالتالي ارتفاع الطلب على البترول وتحسن أسعاره، مما سيؤدي إلى زيادة الإيرادات السعودية بنسبة أكبر مما توقعته الميزانية التي بنت افتراضاتها على أسعار تراوح بين 56 دولارا و58 دولارا للبرميل الواحد.
2 ـ هذا التحسن في ايرادات الدولة سوف يؤدي إلى زيادة المصروفات الحكومية بمعدل أعلى مما هو مقدر في الميزانية، وسوف يكون للمشاريع نصيب كبير من هذه الزيادة. وهذا بدوره سوف يساهم بالمزيد من انتعاش القطاع الخاص.
3 ـ سوف تتحسن فرص الحصول على القروض من المؤسسات الرسمية المتخصصة وفقاً لبيان وزارة المالية, كما أن الوضع المريح للبنوك من حيث السيولة وكفاءة رأس المال، إضافة إلى الضغوط التي تواجهها من مساهميها لتحسين الربحية سيدفع البنوك إلى زيادة إقراضها للقطاع الخاص.
4 ـ قد يتعرض الاقتصاد السعودي لبعض الضغوط التضخمية نتيجة للتوسع في المصروفات الحكومية، واحتمال ارتفاع اسعار الفائدة عالمياً، إضافة إلى استئناف صعود أسعار المواد الخام والسلع الغذائية بسبب استئناف عجلة النمو، كما قد يشاهد الاقتصاد السعودي بعض الاختناقات نتيجة لتزاحم الطلب مما سيدفع معدل التضخم إلى ما فوق 5 في المائة في عام 2011 لكن لا يتوقع أن يشهد سعر الفائدة المحلي أي ارتفاع يذكر.
5 ـ على الدولة أن توجد حلولا مقبولة لمشكلة المقاوولين أثناء فترات الركود الاقتصادي، وأن تضع أنظمة تضمن استمرار الشركات والمؤسسات العائلية بعد موت مؤسسيها، وأن تعيد النظر في موضوع إعطاء الأولوية لبيع جزء من أسهمها في الشركات والبنوك للقطاع الخاص.

المصادر

المصادر العربية:

1- قرار مجلس الوزراء ومرفقاته بشأن الميزانية لعام 1432/1433 (2011) وببيان وزرارة المالية بهذا الشأن. جريدة" الاقتصادية" 26 ديسمبر 2010
2 - د. ماجد بن عبد الله المنيف : "الضغوط على دولة الرخاء الاجتماعي في المملكة العربية السعودية " مايو 2003
3- البنك السعودي الفرنسي "قراءة تحليلية للميزانية السعودية" جريدة "الاقتصادية", 22 ديسمبر 2010
4- تقرير جدوى للاستثمار حول الميزانية السعودية جريدة "الاقتصادية", 22 ديسمبر 2010

المصادر الإنجليزية:
1 - www.doingbus.ness.org/data/explorecoonomies/saudi-arabi
2 - IMF Press release, Agust27, 2010
“IMF Executive Board concludes Article TV Consultation with Saudi Arabia “
3 - www.imf.org/external/np/sec/pn/2010/pn10117.hat
4 - Abdullah H. Albatel, Professor King Saudi university “Government Budget Deficits and Grounding out of Private sector Investment in Saudi Arabia “ 2004

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي