بعد هدم بيت مفتي فلسطين .. من يوقف سرطان الاستيطان؟
في مشهد أليم انقضت الجرافات الإسرائيلية على بيت الحاج أمين الحسيني في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة, ونقلت وسائل الإعلام الخبر على أنه هجوم على فندق شيبرد. والحقيقة أن المبنى ملك خاص لأسرة الحسيني, لكن دائرة أملاك الغائبين الإسرائيلية استولت عليه وعلى آلاف غيره من ممتلكات الفلسطينيين الذين طردوا أو هاجروا لتتصرف فيها بالبيع لليهود, في إطار السرقة المنظمة لوطن كامل بمباركة الولايات المتحدة. وزعمت السلطات الإسرائيلية أن يهوديا أمريكا يدعى إيرفين موسكوفيتش اشترى هذا العقار من دائرة أملاك الغائبين ومن ثم أصبح من السهل الحصول على المبنى والأرض لتحويلها إلى مستعمرات يسميها اليهود وحدات استيطانية.
ويقرأ المحللون في هذه الجريمة الإسرائيلية الجديدة رغبة إسرائيل في إبراز قضية القدس التي قال نتنياهو إن من حق اليهود فعل أي شيء فيها, وتريد إسرائيل بذلك تخفيض سقف المطالبات الفلسطينية في واحدة من أهم ثلاث قضايا تعوق أي حل سلمي, هي: القدس, اللاجئون, والحدود النهائية.
وتلجأ إسرائيل إلى استراتيجية اليهود التقليدية منذ عاشوا في حارات أوروبا وهي ''خذ وطالب بالمزيد'', ونجحت هذه السياسة طويلا، وبتطبيقها في القدس تهدف إسرائيل إلى اختطاف الأرض وترك قرية أبو ديس لتصبح قدسا عربية.
وفي غيبة أي مقاومة عسكرية أو سياسية لا تضيع حكومة العصابات الفرصة, وتضرب ضربة صارخة في بقعة تحت الأضواء ليصبح أكل الأراضي الأخرى واختطافها أمرا طبيعيا مقبولا عربيا وعالميا.
ونتابع في وسائل الإعلام الصهيونية صفاقة ووقاحة تكشف عن منهج هذه الدولة, فالكاتب الصهيوني ألن بيكر الخبير في معهد القدس للشؤون العامة يخرج لتبرير القرصنة في دراسة بعنوان ''قضية المستوطنات''، يزعم فيها أن مطالبة الفلسطينيين والعرب إسرائيل بالخروج من المستوطنات ووصفهم هذا الفعل بأنه جريمة خطأ خطير لأنه يتناقض مع معاهدة جنيف واتفاقات أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين! ولخص أفكاره, التي هي أفكار حكومته ودولته, في عدة أمور, هي:
ــ أن قضية مشروعية المستوطنات أصبحت قضية عالمية.
ــ أن ما يرد في اتفاقية جنيف حول مسؤولية المحتل تجاه الأرض المحتلة لا ينطبق على المستعمرات أو المستوطنات الإسرائيلية.
ــ حاول العرب في مفاوضات 1998 إضافة بند يجرم خطوات إسرائيل الاستيطانية، ما يدل على عدم وجود نصوص سابقة تؤكد هذا التجريم.
ــ أن بناء المستوطنات في الأرض التي تسيطر عليها إسرائيل مسألة فريدة ومسموح بها نظرا لطبيعة الأطر القانونية والتاريخ وظروف التفاوض مع الطرف الآخر.
ــ أن إسرائيل والفلسطينيين توصلا معا إلى سلسلة من الاتفاقيات تم التفاوض عليها في الفترة من 1993 إلى 1999 وهي التي تحكم كل شيء بينهما.
أي أن الإسرائيليين يعتبرون المستوطنات ورقة ضغط وافق الفلسطينيون ضمنا على إدخالها في حزمة القضايا الساخنة مع القدس واللاجئين والحدود. ويقول لا توجد نصوص تمنع أو تحظر التخطيط والبناء.
على هذا المستوى من مخاطبة عقول العالم من خلال مجرمين عتاة، يسرقون ويقولون إن صاحب المال لم يحتج، علما بأن أكثر القضايا صخبا وأكثر احتجاجات الفلسطينيين تدور حول عملية زرع المستوطنات، وقد خجلت الولايات المتحدة أحيانا وطلبت إلى إسرائيل إيقاف بناء المستوطنات على أرض الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، ولكن الحكومة الإسرائيلية على اختلاف رؤسائها: شارون وأولمرت وليفني ونتينياهو ومن قبلهم باراك اعتبرت سرقة الأرض من الأمور التي تكمل مسيرة النهب التي بدأت منذ أول مستوطنة تم بناؤها عام 1907 وقبل عشر سنوات من صدور الوعد المشؤون 1917.
ويقول إسرائيلي آخر إن العالم ثائر علينا، وهناك هيئات عديدة تواصل الهجوم على ''حقنا في بناء بيوت لمهاجرينا الجدد''، ويصفون ذلك بأنه غير شرعي يتفق في ذلك زعماء دول وإعلاميون ومنظمات وصور في إطار ذلك مئات القرارات التي تستنكر على إسرائيلي ''انتهاكها القانون الدولي وخاصة المادة 49 من اتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين في أوقات الحرب''.
الجدير بالذكر أن هذه المادة هي التي ترنمت إسرائيل بها طويلا، ونسبت للنازي أنهم صادروا ممتلكات اليهود، واعتبرت قضية اليهود ضد ألمانيا ــ مع تغير الحكم والتاريخ والظروف ـــ وما زالت ألمانيا تدفع لهم حتى الآن. ولا تخجل دول كبرى تتحدث عن الحقوق والحريات من الصمت المريب والمعيب إزاء سرقة أراضي الشعب الفلسطيني ليل نهار. ويود اليهودي أن يحصل على مكاسب جمة من جراء مطالبة الفلسطينيين بأراضيهم أي أن يتنازلوا عن أوراق أخرى مقابل الحصول على أرضهم!
والأرض هنا هي ما تبقى من السرقات منذ 1948 و1967 وحتى الآن. إن بيت الحاج أمين الحسيني ليس ملكا لدائرة الغائبين، فعائلة الحسيني يعيش معظمهم على أرض فلسطين ولهم الحق في الحصول على بيت جدهم.
ولكنه التعنت الذي نتج عن موقف الولايات المتحدة التي أعلنت وزيرة خارجيتها أنها ستعارض أي قرار يعرض على مجلس الأمن يدعو إسرائيل إلى إنهاء الاستيطان. لقد أصبح التحيز الكامل ثقافة كاملة ولم يعد هناك تأثير لمحايد أو منصف في نظام يعيش ويقتات على فكرة الضغوط.. وقد قال سفير أمريكي عمل في المنطقة ''إن أمريكا لا يمكن أن تتخذ قرارا ضد إسرائيل ولصالح العرب حتى لو كان لصالح أمريكا''. وفي هذا ما يغلق الباب نهائيا أمام فكرة التلويح لأمريكا بمصالحها خاصة في غيبة كاملة لقوى الضغط العربية Arab Lobby.
إن إسرائيل زرعت مئات المكاتب التي تبث آلاف الرسائل المنحازة لها وتوزعها ليل نهار على صناع القرار، بل على البيت الأبيض نفسه. وعندما جاء أوباما أعلن أنه سيوقف الاستيطان لحل القضية. كان ذلك استجابة لحالة من العدالة التلقائية التي تقمصته ووقف الرجل في انتظار العرب ليقدموا له المعلومة والمصلحة، وعندما تقاعس الجميع غير أوباما موقفه، فهو ابن نظام سياسي يقوم على التوازنات وقراءة المصالح، وهي تتطلب حركة دائمة وضغوطا لا تتوقف وتهديدات ووعودا وحسن استخدام وسائل الإعلام. هنا فقط كان من الممكن أن نستعيد بيت أمين الحسيني الذي خرج للعالم على أنه فندق شيبرد.