قضية المستوطنات
وضعت كلمة المستوطنات في صدر العنوان لأنها أصبحت أكثر شهرة من الاسم الطبيعي وهو: المستعمرات.
ترجع أهمية هذه القضية إلى أنها تمثل حجر عثرة في وجه أي اتفاق سلام. فاليهود، وهم نتاج حارات أوروبا يستوعبون جيدا حركة الاستعمار وكيف بدأت بريطانيا احتلال الهند من خلال تأسيس شركة الهند الشرقية التي استولت على شبه القارة الهندية قطعة.. قطعة، تارة لمزارع الشاي التي افتتحها لبتون الإسكوتلندي أو مزارع الجوت أو القطن حتى أصبح 400 مليون هندي تحت سيطرة 16 مليون بريطاني.
بعد هزيمة 1967 كان من الواضح أن اليهود يودون ابتلاع الأرض، فلجأوا لاقتطاع الأراضي التي قتل أصحابها أو هاجروا أو اضطروا صاغرين إلى بيعها، ثم ضم هذه الأراضي تدريجيا إلى أقرب منطقة عسكرية مركزية وإصدار قرارات مدنية بضمها لتصبح جزءا من إسرائيل.
فعل البلجيك الشيء نفسه في الكونغو، والفرنسيون في دول ساحل غرب إفريقيا. السنغال وغينيا وتوجو وبنين وغيرها، وتطبيقا لسياسة الأمر لواقع التي تخدم دائما الطرف القوي طبق الإسرائيليون هذه السياسة وهي التي يسمونها زرع الحقائق، حتى إذا ما حان وقت الرحيل يتذرعون بأن هناك حقائق ورعايا وبشرا سيتم ''حرمانهم'' من وطنهم. ومع الجعجعة الإعلامية المغطاة دائما بجهاز أمريكي لا ضمير له تصبح القضية خلافا عاديا يجب تطبيق العدالة عليه، والعدالة هنا هي ظفر اليهود بأي شيء.
والمستوطنة الصهيونية هي جزء من فكرة الكميونة الشيوعية في روسيا والصين حيث يجتمع عدد من المهاجرين الضائعين تحت علم الصهيونية ورعاية الدولار لإخراج وحدة منتجة صناعيا أو زراعيا وهذا هو الأكثر شيوعا. يتم تلقين مبادئ الصهيونية والتعلق بالأرض في هذه المستوطنات ويتدرب فيها الصهيوني على العمل والقتال.
ويقف المفاوض الفلسطيني وقفة حاسمة ولذلك تم تداول فكرة بناء أو تعليق بناء هذه المستوطنات، أي أنها أصبحت ورقة ضغط، أي أن اليهود يختطفون قطعة أرض من أملاكك ثم يساومون عليها، وهو منطق قرون ولت، منطق البرتغاليين في إفريقيا والإسبان في أمريكا اللاتينية، والآن يتم تجنيد وسائل الإعلام الصهيونية لتبرير هذه السرقة العلنية. من نماذج هذا الإعلام المضلل ما كتبه ألان بيكر سفير إسرائيل السابق لدى كندا الذي شارك في مفاوضات عديدة مع الفلسطينيين وخاصة اتفاقات أوسلو.
يقول بيكر إن ممثلي الجانب الفلسطيني في الأمم المتحدة قد أعدوا مشروع قرار يهدف إلى إعلان المستوطنات الإسرائيلية كيانا غير مشروع وأنها تمثل عقبة في طريق إنجاز السلام، مما وضع مشروعية المستوطنات الإسرائيلية كقضية محورية في جدول أعمال المجتمع الدولي.
وذكر بيكر أن الفلسطينيين يرددون أن المستوطنات تعتبر انتهاكا لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين (1949)، ويزعم بيكر في هذا الصدد أن نص الاتفاقية والظروف التي صاحبت نهاية الحرب العالمية الثانية، التي صيغت الاتفاقية أثناءها، تشير إلى أنها لم يقصد بها مواقف تشبه المستوطنات الإسرائيلية، ويمضي قائلا: إن المادة 49 من اتفاقية اللجنة الدولية للصليب الأحمر تنص على أن ذلك ينطبق على البشر الذين يتم احتجازهم تمهيدا لنقلهم من مواطنهم. ويطالب بعدم ربط ذلك بسياسة إسرائيل في مجال الاستيطان.
ويواصل بيكر ادعاءاته فيقول إنه خلال مناقشة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية في روما، بدأ العرب محاولة إدخال إضافة على النص الرئيسي حيث يصبح قابلا للتطبيق على إسرائيل وسياستها الاستيطانية، وكان هذا دليلا على اعتراف المجتمع الدولي بأن اتفاقية 1949 لم تكن لها أية علاقة بإسرائيل ومستوطناتها. ويغفل هذا المضلل عشرات الاتفاقيات الخاصة بأحوال المواطنين الخاضعين للاستعمار وضرورة حمايتهم وحماية ممتلكاتهم وأراضيهم. هنا في هذا الصدد توجد عشرات الاتفاقيات الدولية التي يتجاهلها هذا القانوني الذي يمنطق ويبرر ويحلل السرقة.
ويستمر بيكر في عرض وجهة نظره فيقول إن اعتماد المجتمع الدولي على اتفاقية جنيف كقاعدة لتحديد وتجسيد عدم مشروعية مستوطنات إسرائيل لا يضع في حساباته ''الطبيعية الفريدة'' للتاريخ والإطار القانوني والتفاوض وظروفه حول الضفة الغربية. أي أن هذا القرصان يعطي ما فعلته إسرائيل من استيلاء وقتل وخطف قوة التاريخ الذي يجب احترامه كأمر واقع.
ويختتم بيكر مزاعمه التي هي في الواقع مجموعة من الذرائع الإسرائيلية المكررة بقوله إن هناك اتفاقا بين الفلسطينيين والإسرائيليين تبلور وتجسد في عدد من الاتفاقيات فيما بين 1993 و1999، وهذه الاتفاقيات مازالت سارية المفعول وهي التي تحكم كل القضايا بين الطرفين وخاصة موضوع المستوطنات. وفي هذا الإطار التفاوضي لا توجد نصوص محددة تقيد أو توقف التخطيط أو اختيار المواقع أو بناء المستوطنات. ولذلك لا يمكن للفلسطينيين الآن إحياء اتفاقية جنيف للتهرب من التزاماتهم التي أعلنوها في سلسلة المفاوضات الخاصة بهذا الموضوع.
وهذه النقطة الأخيرة تقدم دليلا لا نقيضا على جرأة وبحاجة اللص الذي يسرق ويقول إن صاحب الأمر موافق على ذلك لأنه لم يحدد نصوصا مانعة للممارسات.
وردا على المنطق الكسيح الذي يدفع به بيكر يأتي رد الفلسطينيين في 21 كانون الأول (ديسمبر) الماضي بتقديم مشروع قرار للأمم المتحدة يعلن أن المستوطنات الإسرائيلية ''غير مشروعة وتمثل عقبة كؤودا لإنجاز مسيرة السلام''. وهو موقف ثابت وقديم لأن المجتمع الدولي يبدي اهتماما كبيرا بالمحاولة الإسرائيلية التهام أراضي الغير، واتضح ذلك بقوة في تقارير مختلفة صدرت عن هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها وقراراتها ومسؤوليها. وقد تبلور ذلك مرارا في التصريحات السياسية للزعماء، وكلهم يعتبرون سرقة إسرائيل للأراضي انتهاكا للقانون الدولي، الذي أثبتت إسرائيل مرارا عدم احترامها له بدعم كبير من الولايات المتحدة، التي أضعفت مصداقية المنظمة الدولية لإرضاء إسرائيل، حتى أنه أصبح من المعتاد للمراقبين المحايدين وصف الأمم المتحدة بأنها إدارة في وزارة الخارجية الأمريكية، تمتثل لما تريده أمريكا، خاصة في قضية مزمنة طفحت بتقاريرها أروقة المنظمة وأرفف مكتباتها.
وكل ذلك لن يخفي وجه الحقيقة بأن المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب التي صدرت في 12 آب (أغسطس) عام 1949 تبرز حجم الجريمة الإسرائيلية وتخرس منطق محامي الشيطان الذي يسخر من تكرار عبارات ترد مرارا في إطار وصف موقف إسرائيل على غرار ''انتهاك صارخ'' و''عدم مشروعية المستوطنات الإسرائيلية''، التي أصبحت من مفردات كل منظمات وهيئات الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية.
وكما تمسك الإنجليز والفرنسيون بالمستعمرات بدعاوى عديدة مثل ''تطوير تلك الدول'' وإلحاقها بركب الحضارة يتمسك الإسرائيليون بفكرة اختمرت في أذهانهم واعتقدوا أن فيها الرد على المطالبين بحقوقهم وهي: ''إن الظروف الفريدة بين إسرائيل والفلسطينيين وإطار العلاقة بينهما منذ 1993، الذي تجسد في اتفاقيات مشتركة وأوجدت موقفا تمليه الضرورة كأمر واقع، يعطي لإسرائيل مبررات السرقة''.