حقبة التسريبات

ما زلنا نعيش أصداء تسريبات ويكيليكس التي أثارت ضجة عالمية كبرى بكشفها عديدا من الخفايا التي اعتبرت في عداد الأضابير المغلقة.
وعلى المنوال نفسه وقع تسريب أشبه بالانفجار عندما أذاعت قناة الجزيرة وثائق تشير إلى أن السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس عرضت على إسرائيل تنازلات كبيرة خلال مفاوضات السلام، سرقت من كمبيوترات دائرة المفاوضات التي يرأسها صائب عريقات.
واعترف عريقات بذلك, وقال إن الاستخبارات الفلسطينية اكتشفت أن من قام بتسريبها موظفان أجنبيان هما كالينين سويشر الموظف السابق في إحدى الشركات الأمنية الأمريكية, الذي كان يعمل في فريق كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ويعمل الآن في قناة الجزيرة إنترناشونال, والثاني هو زياد كلوت, وهو فرنسي من أصل فلسطيني من حيفا ويعمل في ديوان القصر الأميري القطري, وكان الاثنان يعملان في وحدة دعم المفاوضات تحت قيادة عريقات.
الجدير بالذكر أنه منذ بدأت المعاهدات, خاصة تلك التي تتخذ قرارات مصيرية، أو المحادثات أو المفاوضات أو المباحثات بين طرفين, فإن هناك دائما بنودا سرية لا يكشف عنها إلا بعد 30 أو 50 عاما ـــ حسب رؤية كل دولة أو طرف في كشف ثنايا تاريخه.
غير أن قنبلة أسانج, التي عرفت بالويكيليكس, يبدو أنها أدخلت لعبة الوثائق في سباق زمني، بحيث لا تبقى المعلومات تحت التراب عقودا طويلة, وكانت الحكمة دائما من الإخفاء هي الإسراع بتحقيق حقبة من الهدوء والسلام, كما كان يحدث في المفاوضات الألمانية والفرنسية حول الألزاس واللورين, أو ما كان يحدث مع الأفلاق والبغدان أو منطقة البترول الواقعة بين النمسا وإيطاليا, بل إن حرب 1967 كشفت أن إسرائيل كانت تمر في مضائق تيران منذ عدوان 1956 ولم يعرف مصري واحد ذلك, وهناك عشرات الأمثلة المشابهة فيما يسمى البروتوكولات الملحقة التي تحتوي عادة على الأمور غير المحببة التي قد تثير الانتقاد والغضب.
لكن نقرأ قصة التسريبات الفلسطينية التي تبثها الجزيرة بانتظام؛ ونسأل:
هل هي لعبة أمم متداخلة بهدف القضاء على السلطة الفلسطينية؟ وهنا تقف السلطة وتصر على أن رفضها التفاوض إلا بعد إيقاف الاستيطان، أثار عليها غضب الولايات المتحدة وإسرائيل, فقررتا ضرب السلطة في مقتل. والمقتل لدى العرب هو التأكيد على الخيانة, فهي التهمة التي تودي بصاحبها. ويدعم أصحاب هذا الرأي موقفهم بما حدث لياسر عرفات عندما رفض الاستجابة لإسرائيل.
إن صدق ما جاء في التسريبات فإن حماس ستحقق نقطة تفوق على فتح في لعبة الصراع بين المنظمتين, فهل يود القائمون على التسريب تقوية حماس فعلا, خاصة أنها علنا العدو الأكبر؟
هل هناك علاقة بين توالي الاعتراف بالدولة الفلسطينية من ثماني دول في أمريكا اللاتينية، والتسريبات, بحيث يتم نسف كل شيء طالما توجه السيناريو بعيدا عن المخطط الإسرائيلي المطالب بيهودية الدولة لحرمان اللاجئين من العودة؟ وهل حقا وافق الفلسطينيون على ذلك؟
لا يختلف اثنان على أن التسريبات خطيرة, حتى إن جاء رد فعل السلطة الفلسطينية الأولي والمبدئي بأنها مجرد ''تهريج إعلامي ونصب واحتيال وتحريض'', لأن نصفها إن صدق فهو يضرب السلطة في أحشائها وتأتي في توقيت بالغ الحساسية والأهمية، حيث يجري حالياً بمباركة أوباما أكبر عمل لتصفية القضية نهائياً وسط غياب إعلامي, أو ما يسمى تهميشا إعلاميا لا يكاد يظهر خطورة نتائج ما يجرى طهيه حالياً.
التسريبات تتحدث عن تنازلات لم يسبق لها مثيل, ولم يجرؤ مسؤول فلسطيني سابق على التلميح إليها أو مجرد التفكير فيها، وهي تنازلات تتعلق بالأرض (وتلك أشرس التحديات لأن أرض فلسطين محدودة وتم التهام معظمها، والقدس بكل ما لها من قدسية لدى المسلمين والعرب وما تعينه كرمز للوطن الفلسطيني، والمستوطنات التي تحدثنا عنها في المقال السابق وكانت دائما بمنزلة القنابل الموقوتة التي تتحول إلى ألغام من باطن الأرض الفلسطينية، ولعل أشهر ما رددته التسريبات هو حق العودة بالنسبة للفلسطينيين الذين أرغموا على ترك أرضهم ووطنهم تحت وطأة الضربات العسكرية المتتالية في حروب متعاقبة. وهنا تحظى التسريبات ببعض القبول, لأن المشروع الأمريكي ـــ الإسرائيلي في هذا الصدد قوامه تعويض بعضهم وإبعاد الغالبية، بل إن فكرة الدولة اليهودية التي استجدت لدى ساسة إسرائيل منبعها عدم قبول اللاجئين ودحض حقوقهم الإنسانية والتاريخية كبداية لمصالحة ولسلام حقيقي.
أما ما وقفنا أمامه طويلا فهو التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة، وإقدام الطرفين على قتل من يعوق المسيرة في تفاهم مشترك، وإن صدق ذلك فهو صاعقة لكل فلسطيني وعربي، بل إن عناصر من حماس بدأت تتحدث عن مؤامرة طويلة المدى بين السلطة وإسرائيل لسحق حماس، بدءا بتصفية قياداتها والناشطين فيها، انتهاء إلى ضرب مصداقيتها بين أفراد الشعب الفلسطيني. هذا الموقف من جانب حماس لا يمكن أن يكون خافياً على من قرر كشف الوثائق، وربما كان هدفه دخول السلطة وحماس في صراع قاتل بما يضعف الجهة الفلسطينية تماماً، ومن ثم تجري عملية الحل النهائي على أنقاض القوى الفاعلة، وهو مطلب إسرائيلي يتفق مع أسلوب إسرائيل في الإيقاع بين الأطراف منذ أججت معارك عربية جانبية كثيرة من خلال عملاء لها في الإعلام.
لكننا يجب أن ندرك أن بحر السياسة هائج الأمواج, وأن النوايا الطيبة هي آخر ما يشغل السياسي، لأن همه الأكبر تحقيق مصالحه البعيدة قبل القريبة، وهنا علينا أن نرصد أهم مواقف السلطة التي عددها محمود عباس وصائب عريقات من قبيل الدفاع عن السلطة. وأهم ما ورد في هذا الصدد ما يلي:
أولا: أن الجانب الفلسطيني يرفض منذ فترة العودة إلى المفاوضات بسبب الفجور الإسرائيلي في استخدام ورقة الاستيطان، الذي ترمي إسرائيل من ورائه إلى تحويل الأراضي الفلسطينية ـــ بعد استقلال فلسطين ـــ إلى جزر محاطة بمياه إسرائيلية تغرقها في أي وقت.
ثانيا: أن الفلسطينيين ـــ والكلام هنا لمحمود عباس ـــ قد أحيوا موضوع اللاجئين الذي مات 60 عاما, وذلك من خلال القرار 194 الذي وضعناه في المبادرة العربية للسلام، والذي نصر عليه كمرجعية وحيدة في هذا الصدد.
ثالثا: أن الوثائق التي تم تسريبها لعبة إسرائيلية ـــ أمريكية للضغط على السلطة لثنيها عن مواصلة توجهها لمجلس الأمن لاستصدار قرار يدين الاستيطان (وقد خصصنا مقالا سابقا لهذا الموضوع)، ولإخراج إسرائيل من عزلتها الدولية وفشلها في إيقاف تيار الاعتراف بدولة فلسطين في منطقة كانت دائما ملعبا مفتوحا لها, وهي أمريكا اللاتينية.
رابعا: رغبة إسرائيل في اغتيال محمود عباس سياسيا، وهو الرجل الذي لم تستطع إسرائيل إكسابه صفة الإرهابي, كما فعلت مع ياسر عرفات، ومن ثم تريد قتله في سكون وعبر التلاعب السياسي والتآمري باستخدام سلاح الإعلام الذي أصبح أقوى من أي رصاصة أو سيف.
والدرس الأعظم هنا أن عصر الإخفاء قد انتهى، والقرارات السرية قد اختفى عصرها, فالعالم الآن مفتوح ومقروء ومسموع, وعلى الساسة مراقبة ومراعاة ما يصدر عنهم من تلميح أو تصريح خاصة في عصر التسريبات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي