الضمانات البنكية ونزف التنمية
الحديث عن تعثر المشاريع حديث ذو شجون، وهو حديث متواصل وقائم طالما قامت المشكلة وبقيت جذورها ومسبباتها دون علاج. وربما كانت كارثة جدة أحد الأحداث المتكررة التي تشد الانتباه لهذه المشكلة، خاصة بعد تصرح معالي أمين جدة الذي قال فيه إنه وضع يده على أكثر من 30 مشروعا متعثرا بعد توليه مهام منصبه المحمل بالهموم والمسؤوليات الجسام. كنت دوما أوجه أصابع اللوم والاتهام إلى نظام المشتريات الحكومية كأحد أهم مسببات هذه المشكلة، واليوم، أخص بحديثي أحد جوانب هذا النظام التي أعتقد جازما أنه يمثل أحد جوانب المشكلة، وهو قضية الضمانات البنكية.
أبدأ حديثي كالعادة بتعريف الموضوع، فالضمانات البنكية هي ضمانات مالية أبدعها نظام المشتريات الحكومية كوسيلة لحفظ حقوق الدولة في عقودها مع المقاولين والموردين والمستشارين الذين يتم تكليفهم بتنفيذ مشاريع التنمية. والضمانات البنكية ثلاثة أنواع، أولها هو الضمان الابتدائي، وهو الضمان الذي يتم تقديمه مرفقا مع العرض المقدم من المقاول لإثبات جديته في العرض، وتساوي قيمته في العادة 1 إلى 2 في المائة من قيمة العرض. وثانيها هو ضمان الدفعة المقدمة، وهو الضمان الذي يقدمه المقاول مقابل تسلم قيمة الدفعة المقدمة، وهي تتراوح في العادة بين 5 و10 في المائة من قيمة العقد. وثالثها هو الضمان النهائي أو ضمان حسن التنفيذ، وهو الضمان الذي يقدمه المقاول لحماية صاحب العمل من أخطاء التنفيذ، وهو يعادل في العادة نسبة 5 في المائة من قيمة العقد، ويحتفظ به صاحب العمل لمدة سنة كاملة بعد إتمام الاستلام الابتدائي للمشروع، وحتى إتمام استلامه استلاما نهائيا. وهذه الضمانات تصدر من قبل البنوك التجارية العاملة في المملكة، ويتم تغطيتها بما يسمى التغطية النقدية التي تتراوح بين الصفر المئوي والتغطية الكاملة تبعا لعقد التسهيلات الائتمانية الذي يعقده المقاول مع البنك. ومع أن الضمانات البنكية بدأت بإبداع من نظام الدولة للمشتريات الحكومية، إلا أنه أصبح تطبيقا شائعا حتى في المشاريع التي تقوم بها مؤسسات القطاع الخاص وشبه الخاص، بما في ذلك شركات أرامكو وسابك والاتصالات والشركات العقارية وكافة الشركات الصغيرة والكبيرة، وحتى الأفراد أصبحوا يشترطون مثل هذه الضمانات في عقود مشاريعهم.
أنتقل تاليا إلى الحديث عن المشكلات المرتبطة بقضية الضمانات البنكية، وأول هذه المشكلات هي في أن هذه الضمانات هي بحق وسيلة من وسائل الإذعان في العقود، وتجعل المقاول في موقف الطرف الأضعف نتيجة لامتلاك صاحب العمل لحق تسييل هذه الضمانات دون قيد أو شرط وفي أي وقت يشاء. ومشكلة الإذعان في العقود هي صلب المشكلة في سوء أداء المقاولين والتي تؤدي في النتيجة إلى تعثر المشاريع. فالعقود المنحازة لأحد طرفيها لا يمكن أن تجعل مناخ العمل صحيا، ويغلب على أداء المقاولين في ظل هذا المناخ السعي للتلاعب وتقليص المصروفات على المشاريع حتى لو كان ذلك على حساب الجودة، علاوة على أنها تقوم في الغالب الأعم بالعمل على تجنيب قيمة تلك الضمانات من حساباتها المالية؛ تحرزا لمصادرة تلك الضمانات، وهو ما يؤدي إلى زيادة تكاليف وقيم عقود المشاريع دون حاجة، محملة ميزانية الدولة أعباء غير منظورة.
ثاني المشكلات أن معظم شركات المقاولات لا تملك قدرة ائتمانية وتسهيلات بنكية كافية للحصول على الضمانات اللازمة للمنافسة بفعالية على المشاريع المطروحة للتنفيذ، وهو ما يؤدي إلى حصر المنافسة على تلك المشاريع في عدد محدود من المقاولين، في تكريس مطلق لظاهرة استئثار عدد محدود من المقاولين بالكم الأكبر من مشاريع التنمية، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى إضعاف قطاع المقاولات بشكل عام. وما زاد الطين بلة في السنتين الأخيرتين إبان الأزمة المالية العالمية، أن البنوك قامت برفع سقف اشتراطات منح الضمانات والتسهيلات البنكية، وأصبحت معظم شركات المقاولات مضطرة لتوفير أغطية نقدية كاملة للضمانات التي تحتاج إلى إصدارها، وهو ما زاد من تعميق المشكلة التي أشرت إليها.
ثالث المشكلات أن احتجاز مبالغ التغطية النقدية لإصدار الضمانات البنكية يؤدي إلى تعطيل مبالغ هائلة من الانخراط في دورة الاستثمار والتنمية. فالمقاول الذي يقدم مبلغا نقديا إلى البنك مقابل إصدار ضمان ما لا يتسنى له استخدام ذلك المبلغ في أية عمليات تشغيلية، وهو ما يحد من قدرة المقاولين من الصرف على مشروعاتهم بالشكل المطلوب، ويؤدي في النتيجة إلى تعثرهم في إنجاز تلك المشاريع التي تعاقدوا عليها. والحقيقة، أن البنوك التي تحتجر تلك المبالغ تقوم باستثمارها في عملياته التجارية المتنوعة دون أن يكون للمقاولين المودعين لتلك المبالغ أي حق في الحصول على نسبة من عوائد استثمارها، وهو ما يمثل إجحافا كبيرا بحق المقاولين، خاصة أنهم يدفعون جميع المصاريف والرسوم الإدارية التي تقوم البنوك بفرضها عليها لإصدار تلك الضمانات.
رابع المشكلات هي غياب الآليات المنظمة لممارسة صاحب العمل حقه في مصادرة الضمان؛ إذ إن صاحب العمل في الأغلب يملك الحق المطلق في مصادرة الضمانات حين شاء، دون أن يكون ذلك مبنيا على أي إجراء إداري أو قضائي للتحقق من تقصير المقاول الموجب لمصادرة الضمانات. والمشكلة أن قصور الأداء القضائي وبطء صدور الأحكام في مثل هذه القضايا يجعل المقاول في موطن الطرف الأضعف، ولو صودر ضمانه دون قناعة منه بتهمة التقصير واضطر إلى اللجوء إلى القضاء فإنه يعاني الأمرين قبل أن يحصل على نتيجة مرضية وعادلة. وحتى لو حصل على حكم منصف فإن تعنت الجهات الحكومية والسلطة التي تملكها وزارة المالية في هذا الأمر تجعل من تنفيذ ذلك الحكم أمرا صعب المنال. هذا الواقع هو ما يجعل المقاولين يعمدون إلى تحميل قيمة الضمانات البنكية فوق القيم الحقيقية للعقود، وهو ما يعد هدرا مخلا لموارد الدولة كما ذكرت سابقا. هذه المشكلة تصبح أشد وقعا في العقود مع القطاع الخاص؛ إذ إن المبادرة إلى مصادرة الضمانات دون وجه حق أصبحت ظاهرة ملموسة كبيرة التأثير، خاصة أن القضاء في بلادنا لا يؤمن بمبدأ التعويض عن الضرر، وهو ما يمكّن صاحب العمل من مصادرة الضمان وتأجيل صرف قيمته لفترة من الزمن يعاني فيها المقاول المسكين الأمرين حتى حصوله على حكم بصرف قيمة الضمان المصادر دون أي تعويض يذكر.
خلاصة القول، مشكلات الضمانات البنكية وما توقعه من أعباء على أطراف التعاقد في مشاريع التنمية معروفة للجميع، خاصة للمقاولين المتضررين من هذا الواقع. وما ذكرته من مشكلات لا يبرز حجم القضية، فهناك الكثير من المشكلات الأخرى التي تزيد من عمق المشكلة. وفي الحقيقة، فإن الحاجة أصبحت ملحة إلى مراجعة نظام المشتريات الحكومية ونماذج عقوده، والسعي إلى تحقيق مزيد من التوازن بين أطراف العلاقات التعاقدية، وتقنين إصدار الضمانات البنكية في مشروعات القطاع الخاص. وربما يكون التأمين على العقود نموذجا لنوع آخر من الإجراءات الحمائية التي توفر لأصحاب العمل الأمان المطلوب بعيدا عن المشكلات التي توقعها آلية الضمانات البنكية القائمة.