الطبقة الخارقة

يعرض هذا الكتاب لواقع تركز السلطة بين أيدي مجموعة قليلة من الأشخاص حول العالم، السلطة بمعنى الثروة والنفوذ وليس الحكم والإدارة، وهنا يتحدث المؤلف عن أنماط شتى من النفوذ والسلطة والتأثير، مثل الأفكار، وتشمل هذه المجموعة عددا من رؤساء الدول والمديرين التنفيذيين لأكبر شركات العالم، وأسياد الإعلام، وأصحاب المليارات الفاعلين في مجال الاستثمار وأقطاب التكنولوجيا ومديري صناديق المال والمستثمرين في الأسهم الخاصة وصفوة القادة العسكريين والقادة الدينيين والكتاب والعلماء والفنانين، وحتى كبار المجرمين.
يقول المؤلف إن هناك نحو ستة آلاف شخص في العالم مؤهلون ليكونوا أفرادا من هذه المجموعة، وهي بالطبع مجموعة متحركة، يدخل فيها البعض بحكم مناصبهم وارتقائهم، ويخرجون منها بترك الوظائف، أو بسبب الخسائر التي يتعرضون لها والمشكلات التي يقعون فيها.
ويقول المؤلف إن الكتاب يغطي فراغا في الكتابة حول الفجوة في السلطة رغم الوفرة في الكتابة عن الفجوة المالية في العالم والمجتمعات والدول. وفي مرحلة من التعولم فإن فهم طبيعة هذا العصر ونخبته يعد أمرا مهما وضروريا، كما أن قصص أعضاء هذه النخبة مشوقة أكثر من الفضائح والقصص الخيالية، كما أنهم في محدودية عددهم وإمكانية التركيز عليهم يمكن معرفة العالم.
وبمتابعته لمنتدى دافوس يلاحظ المؤلف كيف تحولت هذه النخبة العالمية إلى مجتمع يلتقي أعضاؤه سنويا، وباتوا يعرفون بعضهم بعضا، وتتنامى بينهم علاقات شخصية وعائلية، إلى درجة تدعو مالوك براون نائب سابق للأمين العام للأمم المتحدة ثم وزير الشؤون الخارجية البريطانية إلى القول: نعرف في دافوس أشخاصا أكثر مما نعرف في بلداتنا التي نعيش فيها.

تعرفوا على طبقة النخبة
ليست العولمة كما يقول المؤلف مفهوما تجريديا بالنسبة للنخبة العالمية، ولكنها واقع يومي، يمكن ملاحظته في أن عبور المحيطات أو القارات أصبح أمرا روتينيا لا يختلف عن مكالمة هاتفية، فهم يعبرون العالم بطائراتهم الخاصة والمزودة بكل الخدمات الهاتفية والشبكية واللوجستية حيث يكونون في رحلاتهم كما لو أنهم في مكاتبهم.
وفي مقدمة هذه الطبقة تأتي مجموعة المال والأعمال، فهي المجموعة الأكثر نفوذا، ويوجد في العالم اليوم نحو 1500 شركة تتخطى قيمتها خمسة مليارات دولار، ويتمتع قادة هذه الشركات بنفوذ عالمي. وتؤدي بعض هذه الشركات دورا اقتصاديا يفوق دور الدول، وغالبا ما تكون بمنأى عن مصالح الدول، ومن بين 166 مجموعة لها مبيعات أو ناتج إجمالي يفوق الـ 50 مليارا يوجد 60 دولة فقط، والباقي شركات، وتتركز 91 شركة منها على جانبي المحيط الأطلسي، ثماني في اليابان، ومن المعروف اليوم أن تمويل الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة تموله مثل هذه الشركات، وبطبيعة الحال فإنها بذلك تؤثر في السياسة العامة للولايات المتحدة.
وثمة طريقة أخرى للتفكير في توزيع السلطة للموارد، وتنسب إلى عالم الاقتصاد والاجتماعي الإيطالي فيلفريد باريتو، ولقيت هذه الطريقة التي باتت تعرف بمبدأ باريتو قبولا واسعا، وملخص هذا المبدأ أن 20 في المائة من الناس يجنون 80 في المائة من جميع المداخيل. وتشير دراسة قامت بها جامعة الأمم المتحدة إلى أن 10 في المائة حول العالم يملكون 85 في المائة من ثروات العالم. وهناك وفقا لدراسة ميريل لينتش وكابغيمي (2007) نحو عشرة ملايين شخص تتخطى قيمة أصولهم المالية المليون دولار، ومن بين هؤلاء نحو 95 ألف شخص يملكون أصلوا مالية تفوق الـ 30 مليون دولار، ومن بين هؤلاء نحو ألف شخص تزيد ثرواتهم على المليار دولار، في حين يمتلك نصف السكان أقل من 1 في المائة من إجمالي الثروة العالمية.
يأتي بعد قادة المال والإعلام في النخبة العالمية قادة الجيوش في العالم، وهناك 40 جيشا في العالم تمتلك أسلحة دمار شامل، 20 جيشا لديها قدرات صاروخية، تسعة جيوش تمتلك أسلحة نووية، وستة جيوش يزيد عدد أفرادها على نصف المليون، وثلاثة جيوش فقط تمتلك أكثر من ألف طائرة، وهناك جيش واحد فقط قادر على شن حرب عالمية حديثة، ويملك تكنولوجيا منقطعة النظير.
وفي التأثير الديني هناك 4300 دين في العالم اليوم، من بينها 20 دينا يزيد عدد أتباعها على المليون، ثمانية أديان يزيد أتباعها على مائة مليون، وهناك دينان فقط (الإسلام والمسيحية) يزيد أتباعهما على مليار شخص، وبطبيعة الحالي يمتلك القادة الدينيون نفوذا وتأثيرا يتفق مع تأثير الدين وعدد أتباعه.
وفي داخل هذه النخبة المكونة من نحو ستة آلاف شخص يوجد نخبة داخلية أيضا، وفي مقدمة هؤلاء يأتي كارلوس سليم، من المكسيك وأحد أغنى الأغنياء في العالم، وروبرت ميردوخ، قائد شبكة واسعة من المؤسسات الإعلامية، مثل ''فوكس''، وصحيفة ''نيويورك بوست''، وصحيفة ''ذا ويكلي ستاندرد''، وصحيفة ''وول ستريت جورنال''، 110 صحف في أستراليا، وشبكة واسعة من خدمات الإنترنت بوسعها الوصول إلى معظم سكان العالم، وهناك أيضا إدوارد سي نيد جونسون، المدير التنفيذي لشركة فيديلتي الاستثمارية، وهي أكبر شركة مستثمرة للأسهم في العالم، وتملك 24 في المائة من السوق العالمية للمشاريع التقاعدية، وتدير أكثر من ثلاثة تريليونات دولار في أصول مالية. ويتحدث بابا الفاتيكان باسم أكثر من مليار كاثوليكي في العالم. وتسيطر وو زياو لينج على المال الاحتياطي الأجنبي في مصرف الصين، وتصل قيمة هذا الاحتياطي إلى 4.1 تريليون دولار. ويسيطر ريكس تيليرسون على احتياطات الطاقة في إكسون موبايل. ويدير إتش لي سكوت شركة لوال مارت العملاقة والتي وصلت عائداتها السنوية عام 2007 إلى ما يناهز 350 مليار دولار. وتعتبر شركة آرسيلور ميتال لصناعة الفولاذ والتي يمتلكها لاكشمي ميتال أكبر شركة في العالم، وتضم أكثر من 330 ألف موظف، وتمتلك مصانع في قارات العالم، ومسؤولة عن إنتاج عشر الفولاذ في العالم، وبالطبع يأتي في مقدمة هؤلاء رئيس الولايات المتحدة.
ولدى دراسة حالة هذه النخبة يجد المؤلف عدة مواضيع مهمة متعلقة بها، السلطة، اللامساواة في العالم، الضغط العالمي، البدائل، المستقبل، ويتساءل هل يمكن الانقسام في المصالح بين النخبة العالمية والنخب الوطنية؟

بروز النخب وأفولها
يحيط بالنخبة العالمية المشار إليها من قبل نخب عدة، من الأشخاص الفاعلين والمهمين، من القادة والمستشارين والأكاديميين، ولكنهم في ذلك ليسوا أكثر من مداخل وأدوات للتأثير للنخبة المهيمنة. والواقع أن هذه النخبة تحافظ على نفسها وتديم تأثيرها بمجموعة من الطرق المعروفة والمكررة، مثل نفوذ التاريخ والمؤسسات والمال والسياسة والقوة والعلاقات والمعارف.
يبدأ النفوذ النخبوي بالانضمام إلى الجيل السابق من النخب، سواء بالبنوة، أو النسب، أو العمل، والعلاقات المختلفة. وتمنح العائلة النخبوية عبر منظماتها واسمها وعلاقاتها كثيرا من المنافع، تبدأ بدخول أفضل المدارس، والحصول على موارد مالية تمكن الأجيال الصاعدة من السعي إلى تحقيق طموحاتهم، أو بكل بساطة امتلاك اسم يفتح الأبواب لحامله.
والواقع أن العوامل التاريخية كانت أكثر أهمية في العهود الماضية، حينما كانت النخب تصمد في مواقعها لمدة زمنية أطول، وكانت الحركة بين الطبقات أكثر صعوبة، وفيما لا تزال الفروق الطبقية موجودة بوضوح إلى يومنا هذا، فإن أحد أهم أبعاد زماننا هي الحركة المعززة التي تتوافر لعديد من الأشخاص. هذا لا يعني أنه ليس لدينا نخب أو أن البعض منهم لا ينتمون إلى سلالات عميقة الجذور، بل يعني أن قائمة أعضاء طبقة النخبة أكثر تقلبا من قوائم أغلب المجموعات المشابهة في مراحل مختلفة من التاريخ.
ومن بين الآليات التي استخدمها الناس ليظلوا في حالة اكتساب للسلطة والممتلكات إنشاء المؤسسات التي تعيش أكثر من الأفراد، وكانت أغلبية هذه المؤسسات تتم أعمالها ضمن بلد واحد، ثم غيرت ثورة النقل والاتصالات الموجودة في قلب العولمة هذا الواقع لدرجة أن الأغلبية العظمى من أكبر شركات العالم اليوم باتت ذات مدى عالمي.
وتتمتع المؤسسات اليوم بوضع يتخطى الحدود الوطنية، وفي حين لا تزال تخضع للقوانين المحلية في كل مكان، إلا أن ذلك غالبا ما يسمح لها ببذل سلطة هائلة على الحكومات التي تقيدها بقوانينها.
ويقترح البعض أن السلطة العظمى للمؤسسات غير شخصية، وأن الأفراد الذين يديرون مثل هذه المؤسسات لا يمتلكون سلطة خاصة في حد ذاتهم، ويوجد بعض الحسنات لهذا الأمر، وثمة أمر يذهب لأي دارس للنخب على مر التاريخ، ومفاده أنه يوجد اليوم مزيد من النخب المرتبطين بمؤسسات كبرى (عوضا عن الوضع المستمد من الروابط العائلية أو من خلال إنجازات المرء) أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك يوجد في أغلب المؤسسات شخص أو شخصان أو مجموعة صغيرة من الأشخاص من كبار المسؤولين التنفيذيين الذين ترجع إليهم سلطة اتخاذ القرارات الحاسمة، لعل أهمها يتعلق بتوزيع الموجودات، وهو القرار الأهم الذي يتحمل مسؤوليته أي قائد، ووضع جداول الأعمال، وهي الوسيلة التي غالبا ما يحط من قدرها، ولكنها تعتبر أهم حق موحد لدى طبقة النخبة.
وفي مجال المال كمصدر للنفوذ يعرض المؤلف ما ذكرته مجلة ''ألفا'' من أن ثلاثة مديرين لشركات استثمارية جنوا ما يناهز المليار دولار عام 2006، ويترجم المال إلى سلطة بطرق مختلفة، مثل التأثير في الانتخابات العامة، أو لكسب مواقع سياسية، وهناك قائمة طويلة من رجال الأعمال والأثرياء الذين تحولوا إلى سياسيين، مثل بيرلوسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي والذي يملك إمبراطورية إعلامية استخدمها للسيطرة على الساحة السياسية الإيطالية، وتنفق الشركات على جماعات الضغط، وبعيدا عن السياسة وقريبا منها يشكل الإنفاق على العمل الخيري مصدرا للتأثير والثقة.
والسياسة في حد ذاتها مصدر للنفوذ والمال والتأثير يجذب النخب الاقتصادية والعامة، فالسياسة تمنح النخب قدرا كبيرا من الأهمية، ومداخل للتأثير ومد النفوذ والمكاسب خارج الحدود الوطنية، وفي التأثير على الطبقات المؤثرة والتقرب منها.
وتمثل القوة العسكرية مصدرا مهما للتأثير والنفوذ، .. والثراء أيضا، فالقدرة على استخدام القوة مصدر فعال، وفي عالم اليوم فإن التهديد باستخدام القوة مصدر نفوذ فعال.
وتعد العلاقات مع آخرين مستعدين للتعاون من أجل تعزيز المصالح المشتركة لمد جسور النفوذ بين المجموعات أو حول العالم أمرا مهما جدا. وأصبحت هذه العلاقات بفضل التقنيات الحديثة التي تجعل تشكيل مثل هذه الشبكات والحفاظ عليها أمرا ممكنا عبر الحدود الدولية، مهمة على نحو متزايد، وكانت هذه الشبكات فيما مضى مقصورة على التدرجات الهرمية ضمن المنظمات التي كان المرء يعد جزءا ماديا منها، مثل العائلات والمجتمعات والمؤسسات، ولكن أحد أهم التغييرات التي نجمت عن الثورتين التوأمين في مجالي النقل والتواصل هي السهولة، حيث بات في مقدور الناس تشكيل وإعادة ترتيب وتوسيع واستخدام شبكات لم يعد يلعب فيها البعد الجغرافي أي دور، أو بات دوره ثانويا. وقد سهل هذا الأمر نشوء ثقافة مشتركة لدى النخب العالمية، مثل الاستخدام المتزايد والمنتشر للغة الإنجليزية، والرجوع المشترك لمصادر معلومات محددة، ومعايرة الممارسات والمقاييس والقواعد التجارية،.. والنتيجة، رغم الأهمية القصوى التي كانت عليها شبكات المعارف، باتت اليوم أكثر أهمية، حيث نمت لتصبح علاقات مؤسساتية ثابتة وتنافسية في كثير من الحالات.
وترتبط طبقات النخبة من خلال آليات النفاد والحصرية التي تتمتع بها، ومنها الروابط العائلية، والروابط الدراسية القديمة، والعضوية في منظمات حصرية، والعضوية في مجالس إدارة الشركات، وعلاقات تشكلت من خلال العمل سويا، وعلاقات تشكلت جراء عقد الصفقات. ومن النادر وجود عضو من طبقة النخبة لا يمتلك شبكات تواصل شاسعة نسبيا.
ولكل عهد نخبه، ونجد في تاريخ بروزها وأفولها ثلاثة مواضيع أساسية على الأقل تتكرر، إضافة إلى التجمع الثابت للسلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية في يد ثلة قليلة من الأشخاص نسبيا.
وتحدث الثورات التاريخية الكبيرة والحروب والثورات التكنولوجية والاجتماعية تغييرات كبيرة في الحكم وقيم المجتمعات، وتدعو القيود المؤسساتية الضعيفة أو المحدودة إلى حدوث تغييرات مرتبطة بـ ''الفوضى الخلاقة'' الاقتصادية والسياسية، ومن المحير أن الظروف نفسها التي تعزز الإبداع والريادة بوسعها أيضا جلب الإساءات والجور واللامساواة. وفي النهاية تسبب الثورة الاجتماعية، واليوم تعتبر صناعة الطاقة أكبر صناعة في العالم وأكثرها نفوذا، مع ملاحظة تأثير الابتكارات الديمقراطية. وقد اتسم كل عهد للنخب بمغالاة في الطموح وانهيار لاحق، والسؤال الذي بدأ يطرحه كثيرون هو: هل سيشهد زماننا الأمر نفسه، إذا كانت الجهود الحالية للحد من رواتب المديرين التنفيذيين وخفض الفوائد الضريبية لشركات الأسهم. الواقع أنه ليس ثمة مجال يشهد التغييرات بالسرعة التي يشهدها مجال المال والأعمال، وليس ثمة مجموعة متكيفة بشكل أفضل مع الطبيعة العالمية لهذا العهد الحديث.

مستقبل طبقة النخبة
الواقع أن الكتاب يبدو أكثر أهمية بكثير مما يقدمه عنوانه، فالانطباع الذي يمنحه العنوان أنه يتحدث عن مؤامرات خفية، ومعلومات سرية عن عائلات وشركات تسعى للسيطرة والاحتكار، ولكنه في الحقيقة كتاب تاريخي اجتماعي يتتبع على نحو علمي وشيق في الوقت نفسه حراك النخب وتحولاتها ومستقبلها أيضا.
وفي مقابل منتدى دافوس الذي ينظم لقاء النخب، هناك المنتدى الاجتماعي العالمي المناهض والذي يسعى لتشكيل عولمة بديلة، تمنح العدالة الاجتماعية وتقلل الفقر في العالم، وقد يزيد حضور النساء في التأثير والقيادة والنخب بعامة، وهناك نخب جديدة وصاعدة قادمة من النمو الاقتصادي للصين وآسيا، والتغير الجاري في الموارد ودور الدولة، ومن المؤكد أن تغير دور الدولة يغير في النخب وخريطة التأثير في المجتمعات والدول والعالم أيضا.
وأخيرا فإن تشكل النخب وصعودها وانحسارها عملية اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية، معقدة يصعب ردها إلى المؤامرات والانجراف الأعمى. ويؤدي الركون إلى مثل هذه النظريات والمقولات إلى غياب الفهم الصحيح للكيفية التي تجري فيها التغييرات في بنية المجتمعات، والفرص أمام النخب المختلفة وكيفية استغلالها أو عجزها عن استغلالها.

الطبقة الخارقة، نخبة التسلط العالمي وأي عالم تبني
تأليف: دايفيد ج. روثكوبف
ترجمة حنان كسرواني
شركة المطبوعات للتوزيع والنشر
بيروت
الطبعة الأولى، 2011
496 صفحة

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي