البنوك التجارية .. حوار مع مسؤول

هذا المسؤول هو مسؤول افتراضي، مع أن هذا الحوار كان حوارا حقيقيا دار الأسبوع الماضي مع أحد المسؤولين في أحد البنوك التجارية السعودية العريقة، ولكنني آثرت أن أجعله اليوم حوارا افتراضيا لأبتعد أولا عن الشخصنة في الطرح، ولأن جميع الآراء التي عبر عنها هذا المسؤول هي في الحقيقة تمثل موقفا موحدا أسمعه من كل المسؤولين في كل البنوك، وكأني بهم وهم ينسقون جهودهم أو ينهلون من معين واحد، أو ربما لأنهم يعيشون في المستوى المترفع المتعالي ذاته عن واقع المجتمع، بما يعطيهم الحق ليمارسوا أرقى حالات التنظير والتفسير والتبرير والتعبير والتأطير، دون مقاربة حقيقية لهذا الواقع. وفي الحقيقة، كنت دوما أتساءل عن طبيعة الدور المتعلق بوظيفة كبير الاقتصاديين التي نسمع عنها في البنوك، إلا أن حواراتي المتكررة مع عدد منهم، وما نسمعه بين الفينة والفينة منهم، أوضح لي أن مهمة هؤلاء المسؤولين هي إدارة لعبة الأرقام والنظريات الاقتصادية في شكل يغلب عليه مفهوم العلاقات العامة أكثر منه إدارة اقتصادية حقيقية لواحد من أهم القطاعات الفاعلة في مسيرة التنمية.
موضوع الحوار المتكرر المتجدد هو بنوكنا ودورها في التنمية، وهو موضوع نجده عنوانا لكثير من المؤتمرات والمناسبات والمقالات والطروحات والبيانات التي غالبا ما تكون البنوك هي الراعي الرسمي لها، وبالتالي تجد أن المتلقي لا يسمع إلا وجهة نظر البنوك المملوءة بالعبارات التسويقية وممارسة تلميع الذات. وقضية التنمية هي قضية تهم كل المؤسسات والقطاعات في الوطن، ونجاح التنمية لا ولن يتم إلا بتضافر جهود هذه القطاعات، ومشكلتنا المزمنة هي في هذا الانفصال المشهود بين هذه القطاعات في منظومة التنمية، وانفراد كل منها برؤيتها وأهدافها وأجنداتها الخاصة، التي تتعارض في كثير من الأحيان بين بعضها بعضا، وكأنها تعيش في جزر منفصلة، في مشهد من التضاربات والفوضى والفردية والتشتت التي تجعل كل الجهود بالرغم من صدقيتها ومشروعية أهدافها لا تحقق الأهداف المرجوة، ولا تؤدي بجهود التنمية إلى النجاح المأمول، وبنوكنا التجارية أحد هذه القطاعات، وربما أحد أهمها على الصعيد الوطني، كونها تمثل الرافد الأهم لتمويل جهود التنمية. والحقيقة أن البنوك ربما لكونها بنوكا تجارية، تغلب على أعمالها وأجنداتها الصبغة التجارية البحتة، والبحث عن تحقيق الأرباح المباشرة لمجمل عملياتها، في غياب واضح لأداء دور فاعل ومبادرات حقيقية لمعالجة المشكلات التي تعوق مسيرة التنمية، والتي يمثل جانب التمويل عنصرا أساسيا فيها.
قلت إن دور البنوك في قضية التنمية هو دور حيوي ومهم، فهي تمثل الرافد الأهم لتوفير التمويل اللازم لخطط ومشروعات التنمية، وحين نتحدث عن التمويل البنكي، نرى أن البنوك انجرفت في فترات سابقة في توجيه التمويل لكيانات تجارية عائلية، في ممارسة مغرقة إلى العظم لمفهوم التمويل الشخصي عوضا عن تمويل المشروعات. والمشكلة أن تلك الفترة شهدت تفضيلا للبنوك لتمويل الأفراد والكيانات التي كانت البنوك تعتبرها جهات ذات مراكز ائتمانية مرتفعة، وأشاحت بوجهها عن تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي يعلم الجميع أنها تمثل العمود الفقري لأي اقتصاد ناجح. وعندما عصفت الأزمة المالية العالمية باقتصادات العالم، وبرزت حالات التعثر المشهودة من عدد من الأسماء المرموقة في عالم التجارة والاقتصاد، بادرت البنوك بإغلاق محافظها وخزائنها، ورفعت معايير التحفظ في الإقراض والتمويل إلى درجات غير مسبوقة، وأصبحت كل الكيانات التجارية، كبيرها وصغيرها، يستجدي التمويل من البنوك، حتى أصبحت البنوك تملك فوائض مالية كبيرة لا تدري كيف توظفها، خاصة إذا علمنا أن نحو 180 مليار ريال من أموال البنوك تم توظيفها في استثمارات خارجية أو في شكل ودائع لدى مؤسسة النقد العربي السعودي. إن قصور التمويل البنكي للكيانات التجارية والاقتصادية، وخاصة الصغيرة والمتوسطة منها، يمثل عقبة حقيقية في مسيرة التنمية، وهذا المبلغ الضخم الذي أشرت إليه يمكن أن يشكل دعامة مهمة لهذه الكيانات، وأن يسهم في معالجة مشاكل البطالة المتفاقمة، فيما لو وجهته البنوك لدعم الاقتصاد الوطني.
كنت قد تحدثت في مقال الأسبوع الماضي عن قضية الضمانات البنكية، والحديث هنا يمسها من جانب دور البنوك التجارية، ففي الوقت الذي توظف هذه البنوك تلك المبالغ الضخمة في استثمارات خارجية بحثا عن الربح المضمون، تعاني شركات المقاولات المحلية الأمرين في الحصول على التسهيلات اللازمة لتمكينها من الانخراط بفاعلية في مشاريع التنمية. والمشكلة أن اقتصاديي البنوك يتحدثون عن انحسار الطلب على الائتمان إبان الأزمة المالية العالمية، فعن أي انحسار يتحدثون؟ إن كان القصد هو انحسار الطلب التقليدي من النمط القديم فهذا واقع صحيح. ولكن الطلب على الائتمان لم ينحسر البتة، بل شهد تزايدا كبيرا في قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، خاصة في ظل زيادة المشروعات الحكومية، وتنامي الطلب على الإسكان والعديد من المنتجات الاستثمارية والتجارية الأخرى. والبنوك تتحدث عن قيامها بتوفير تمويل بلغ نحو مليار و700 مليون ريال للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة من خلال برنامج كفالة الذي يديره صندوق التنمية الصناعي، ولكن ماذا يمثل هذا الرقم بالنسبة إلى حجم المبالغ المستثمرة في الخارج، وحجم الطلب الهائل على التمويل البنكي من هذه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؟
تتحدث البنوك من وقت إلى آخر عن بعض برامج المسؤولية الاجتماعية، وفي رأيي أن التعبير الحقيقي عن المسؤولية الاجتماعية يتجاوز بمراحل برامج الأسر المنتجة ومثيلاتها من البرامج. إن المسؤولية الاجتماعية تتطلب انخراطا حقيقيا للبنوك في قضية التنمية عبر توفير التمويل بمختلف أشكاله للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. إن حملات القروض الاستهلاكية التي تتسابق البنوك لإطلاقها بين الفينة والفينة لا تحقق نهضة اقتصادية حقيقية، بل تؤدي إلى تعميق مشكلة المديونية غير المنتجة في المجتمع. إن تمويل التنمية الحقيقي هو التمويل الموجه إلى القطاعات الإنتاجية والخدمية، وليس التمويل الموجه لشراء السيارات والأثاث والرحلات الترفيهية. والمشكلة أن البنوك الأجنبية التي حصلت على رخص عمل في المملكة، والتي كان يؤمل منها الكثير في نقل تجاربها في الدول التي جاءت منها، انخرطت في أداء النموذج ذاته الذي تعودناه من البنوك المحلية. وهو ما يشير إلى خلل في دور مؤسسة النقد في هذا المجال، وحجم القيود التي تفرضها على البنوك العاملة في المملكة لأداء دور حقيقي في مسيرة التنمية. وبالرغم من ذلك، إلا أن البنوك يمكنها أن تكون أكثر فاعلية عبر تبني مبادرات مبدعة وخلاقة لأداء الدور المأمول منها بالرغم من القيود المفروضة عليها. أبسط مثال على ذلك المبادرة بصياغة حلول توظف مفهوم التأمين على الاستثمار لمعالجة مشكلة قصور القدرات الائتمانية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وكذلك تأسيس محافظ استثمارية متخصصة موجهة لدعم مبادرات الأعمال والاستثمارات الناشئة، عوضا عن التركيز على تمويل الكيانات الكبيرة.
خلاصة القول، تحقيق أهداف التنمية ومسيرتها الطموحة يتطلبان من البنوك رفع راية المبادرة والانخراط الحقيقي والتكامل مع القطاعات العاملة في المملكة كبيرها وصغيرها. والواقع الراهن لن يحقق لهذه البنوك المردود الاجتماعي الذي تتطلع إليه، ولا المستقبل الآمن في تحقيق الأرباح على المدى الطويل. والأجدر بالبنوك أن تتبنى مفهوم الاستثمار في الكيانات الناشئة لتوفر لنفسها مراكز ربحية ثابتة على المدى الطويل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي