أيام الغضب

فبراير شهر جريجوري أو ميلادي اشتق اسمه من فعل Febriare أي ختان الأولاد. وكانت الفرحة تعم فيه, وتكثر الاحتفالات حتى يحل شهر مارس أو الحمل Ram، الذي يعتقد أولئك أنه برج الحظ السعيد، أما في الدول العربية والإسلامية فقد جاء الشهر متشحا بالغضب الشديد الذي تفجر بشدة, وهبت رياحه الغربية العكسية من تونس ومصر إلى سائر أنحاء الشرق الأوسط.
في ثورة تونس ومصر كان المحرك الأعظم زيادة معدلات الفساد والتربح والوساطة والمحسوبية والرشوة والاستيلاء على أراضي الدولة وإهمال الطبقات المهمشة تعليميا وصحيا وفتح الباب أمام عناصر متباينة للهيمنة المالية والسلطوية. وكلها أسباب أدت إلى تراكمات من الإحباط، ومع ازدياد معدلات البطالة أصبح لدى الشباب الفراغ والحنق زاده لهيبا تواصله مع غيره عبر الإنترنت.
وفي أحيان كثيرة عهد بأمور مهمة للتافهين, فصدقت عليهم مقولة جون جيبون مؤلف كتاب صعود وانهيار الإمبراطورية الرومانية الذي قال ''لقد انهارت الإمبراطورية الرومانية عندما عهدت بكبار أمورها لصغار رجالها''، وفي تناغم جدير بالتأمل تواصلت المظاهرات في بلدان عديدة, كلها تحمل الشعارات نفسها في البحرين والجزائر واليمن وإيران وليبيا.
وعندما نطرح على أنفسنا التساؤل حول التزامن والتوقيت نجيب بأن سنوات القمع والإحباط والفقر وزيادة وطأة الاستبداد هي التي صنعت المادة الخام الجاهزة للانفجار، لكن يبقى سؤال حول قيامها في وقت واحد.
هل لهذا علاقة بما أعلنته كوندوليزا رايس مرارا عن الفوضى الخلاقة التي تحبذها الولايات المتحدة, وترى فيها متنفساً لتحقيق التغيرات الجوهرية المطلوبة من وجهة نظرها في الشرق الأوسط لإعادة صياغته على ما طلبه بيريز؟ هل هو شعور بالنجاح بعدما سقط الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتهاوى تشاوتشيكو في رومانيا وصدام حسين في العراق، وما يعنيه ذلك بأن الناجح يرفع يده.
يشي بذلك حالة الحماس الأمريكي الفائق لكل هذه التحركات، ضاربة عرض الحائط بتحالفاتها مع تلك الأنظمة. ومن سخرية القدر أن واشنطن التي فرضت على مصر مثلا وزارة من رجال الأعمال تؤمن بالاقتصاد الحر والعولمة هي نفسها التي تدعم ثورة تطالب بمطالب اشتراكية مثل تدبير الشقة والوظيفة والمساواة في الرواتب. وقد ظهر ذلك واضحاً في تغطيات المحطات الأمريكية مثل CNN وفوكس والحرة والمحطات التابعة كافة.
وحتى لا نهضم حق الثورات فإن كل بلد لديه ويلاته، في البحرين هناك مشكلة التوازن السكاني بين السُنّة والشيعة ومطالبة الشيعة بسلطات أوسع من خلال جمعية الوفاق الوطني الإسلامية الشيعية التي علقت عضوية نوابها في البرلمان بعد مقتل اثنين من المتظاهرين الشيعيين في اشتباكات مع الشرطة كما أعلنت هذه الجمعية.
وفي ليبيا حيث يقبع العقيد القذافي على سدة الحكم منذ عام 1969 (42 عاماً) هناك مشكلة التقادم في السلطة، حيث طالبت قوى سياسية وشخصيات ليبية معارضة في المنفى في بيان لها بتنحي القذافي الذي أعلن أن سقوط رئيسي تونس ومصر يرجع إلى عدم أخذهما باللجان الشعبية الليبية التي يرى أنها جوهر الديمقراطية، بل إن هناك نكتة تقول إن الرئيس القذافي يمشي في المظاهرات التي تهتف بطلب تنحيه. وعلى غرار ما تم في مصر توجه الناشطون المعارضون إلى الإنترنت لبث نداءات تطالب القذافي بالاستقالة. وقدم هؤلاء أنفسهم على أنهم (فصائل وقوى سياسية مستقلة وشخصيات وطنية ليبية ومنظمات وهيئات حقوقية مهتمة بالشأن الليبي العام). ودعا هؤلاء إلى تأمين انتقال سلس للسلطات والأجهزة السيادية.
أما الصومال التي يوجد فيها ما يقرب من عشر حكومات فقد دعا رجال دين تابعون لحركة الشباب الإسلامية إلى الانتفاضة ضد الحكومة الانتقالية التي يدعمها الغرب، والصومال كما نعلم تترنح تحت ضربات التمزق والفقر, ولا يدري أحد من الذي سيستجيب لمن؟
وفي الجزائر, بدأت المظاهرات ولوحظ أن الرئيس بوتفليقة منع قوات الشرطة من استخدام الرصاص حتى لا يقع في أزمة النظام المصري ضد المتظاهرين ويبدو أن الرئيس الجزائري اشتم تورط بعض السفارات الأجنبية في تأجيج التظاهرات، لذلك أصدر أوامره بعدم الاتصال بأي سفارة دون علم وزارة الخارجية أو تصريح من السلطات العليا.
أما اليمن فلديها قصة مختلفة، ذلك أن اليمن كانت دولتين جرى توحيدهما بالقوة المسلحة، ولا نقاش في أن الجنوبيين لا يحبذون الاستمرار في وحدة قهرية ومع طول مدة حكم الرئيس علي عبد الله صالح (33 سنة) وتمزق البلاد في حروب أهلية مع وجود المناخ القبلي الذي أدى تداخل القبائل تحت مظلته إلى مشاعر متباينة من القبول والرفض, كل ذلك يجعل الأحداث في اليمن مرشحة لسخونة وعنف ما لم ينجح الرئيس اليمني في احتواء الأزمة. وأمام مطالب الجنوبيين بتطبيق اللامركزية وحل القضية الجنوبية وحل المشاكل الاقتصادية لتحقيق المساواة في التوزيع. ونلاحظ هنا أن شعوبا كثيرة تطالب بالعدالة في التوزيع, وهو مطلب اشتراكي قديم تدعمه أم الرأسمالية ''الولايات المتحدة، التي تنظر بعين الإعجاب لمطالب على شاكلة'' توفير وظائف, وحل مشكلة البطالة، وإقرار توازن بين الأجور والأسعار.
أما قضية القضاء على الفساد فهي واحدة في كافة الهبات والثورات, خاصة فيما يتعلق بالقضاء على الرشوة والمحسوبية والوساطة وتغليب عنصر الولاء على الكفاءة.
وقد خطر لي وأنا أتابع كل هذه الثورات فكرة أن من عجائبها أن المستفيد منها لا يكون عادة صاحبها أو من بدأها. تذكرت ثورة الشاب الشيوعي أيديت ضد الرئيس شارل ديجول سنة 1968, وانتهت إلى اتخاذ الرئيس قرارا بإجراء استفتاء جاءت نتيجته على غير ما يرغب، فاستقال.
ولم يستفد الحزب الشيوعي بقيادة مارشيه وإنما خلف ديجول تلميذه الجمهوري بومبيدو.
والثورة الفرنسية الكبرى 1789م قادها مرا وهيبير ودانتون، وقد قتلهم جميعا روسبير وظن أنه ساد الموقف، ولكنهم قاموا عليه وقتلوه هو وسان جوست وكيتون، وذهبت قيادة الثورة لشخصيات لا علاقة لها بالثورة مثل كارنو وتاليران وميرابو الذين أسلموها للملازم ـــ الجنرال فيما بعد ـــ نابليون بونابرت.
والثورة الإيرانية قام بها مجاهدو خلق وبزرجان وبختيار وبني صدر وقطب زادة، وقفز عليها البازار والملالي.
والثورة الروسية الأولى سنة 1917م قام بالجزء الشاق فيها كيرنسكي, ولكن لينين والبلشفيك قفزوا عليها وسيطروا على روسيا إلى حين تصدعت الشيوعية سنة 1989م.
في هذا العام انهار الاتحاد السوفياتي وأنجب أربع عشرة جمهورية, وانهارت يوغوسلافيا والحكم في رومانيا. وكان للولايات المتحدة دور كبير في ذلك, ولكنها فشلت في الصين عندما أعطت النور الأخضر لدعاة حقوق الإنسان للثورة في ميدان تيانامين الذي شهد مذبحة هائلة أسكتت المعارضة إلى الأبد.
وغاية ما يقلق معظم المراقبين هو: ثم ماذا؟ وما المطلوب حقيقة؟ هل هناك اتجاه لتقسيم دول لمصلحة أخرى؟ أم أنها لوحة وصورة لغضب مكتوم. الأيام فقط هي التي تجيب عن هذا السؤال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي