ملاءمة الهيئات الشرعية الحالية لمستقبل المصرفية الإسلامية
قد يظن البعض أن الاقتصاد الإسلامي كفكر يعد وليد التطبيق المعاصر، إلا أنه قديم قدم الإسلام، لكن المصارف المتوافقة مع الشريعة حديثة عهد فترجع إلى ستينيات القرن الماضي، ولنا أن نعترف بأن المصارف الإسلامية حققت كثيراً من النجاحات منذ ظهورها، سواء من حيث الحجم أو التفوق أو النمو، فهذه النجاحات تمثل ظاهرة، وأن ارتفاع موجودات تلك البنوك، وزيادة أرباحها أدى إلى انتشارها حول العالم.. بل أكثر من ذلك فإن الأزمة المالية العالمية أضفت على التجربة مزيدا من الثقة، حيث إن تلك المصارف كانت الأجدر في مواجهة الأزمة كل ذلك ساعد على استمرار تلك النجاحات وانتشار الفكرة، والمستقبل القريب سيشهد المزيد من افتتاح البنوك أو الفروع التي تقدم منتجات متوافقة مع الشريعة الإسلامية، و قبل البدء في الموضوع أسجل تقديري لشيوخنا وعلمائنا رؤساء وأعضاء الهيئات الشرعية، بل ولهم الشكر على دعم التجربة طوال تلك المدة، وهنا نتساءل.. هل الهيئات الشرعية الحالية ملائمة لمستقبل المصرفية الإسلامية؟
للرد على هذا التساؤل يجب أن نتعرف على أهم مهام، وواجبات الهيئات الشرعية والتي يمكن تلخيصها في توجيه نشاطات المصارف الإسلامية ومراقبتها والإشراف عليها للتأكد من التزامها بأحكام وقواعد الشريعة الإسلامية في جميع معاملاتها، ودراسة مشروعية مجالات العمل والعقود وصياغتها، حيث تتفق مع أحكام الفقه الإسلامي قبل التوقيع عليها للتأكد من عدم وجود أي بند فيها يتعارض مع أحكام فقه المعاملات الإسلامية، وبيان المخالفات والأخطاء وإبداء الرأي والتنبيه على إدارات تلك المصارف لاجتنابها، وبيان المعاملات الحلال التي تقوم بها المؤسسة المالية الإسلامية وإقرارها، وإيجاد البديل الإسلامي الحلال للمعاملات المخالفة للشريعة، واستحداث صيغ استثمارية شرعية جديدة .أى أن الهيئات الشرعية تعد ''صمام الأمان للمصارف المتوافقة مع الشريعة''، وللرد على هذا التساؤل يجب أن نضع في الاعتبار أيضا الأمور التالية:
ــــ التحدي الأساسي للمصارف الإسلامية الذي يتمثل في النمو المتصاعد لموجوداتها والذي يتوقع أن تصل إلى 1.5 تريليون دولار في عام 2015، وفى الوقت نفسه عدم كفاية الكوادر البشرية المدربة التي تعمل في تلك المصارف.
ــــ قلة عدد الفقهاء المتخصصين في مجال المعاملات المصرفية والمسائل الاقتصادية الحديثة مما يؤدي إلى عدم وجود تصور واضح لهذه المسائل، ومن ثم صعوبة الوصول للحكم الشرعي الصحيح فيها، بجانب التطور السريع والكبير في المعاملات الاقتصادية وصعوبة متابعتها بالفتوى وبيان الحكم الشرعي.
وأيضاً عدم الاستجابة السريعة لقرارات الهيئة من قبل إدارات بعض المصارف، وهذا الأمر سيؤدي إلى استمرار وجود المخالفات الشرعية والاعتياد عليها من قبل الموظفين، وقد يقود في نهاية الأمر إلى رقابة شرعية صورية لا معنى لها.
ــــ وجود بعض القصور في عمل الهيئات الشرعية، هذا القصور لا يرجع بالضرورة إلى أعضاء هذه الهيئات وإنما يرجع لأسباب كثيرة منها أن أعضاء هذه الهيئات مثقلون بأعباء كثيرة في نطاق عملهم، فبعضهم يشارك في عدد كبير من الهيئات الشرعية للصناعة المالية الإسلامية فقد يصل عدد العضويات للعالم الواحد إلى ما يقارب 100 عضوية، إضافة إلى أن بعض العلماء غير متفرغين لأعمال الرقابة الشرعية في المؤسسات التي يعملون بها.
في ضوء ما سبق وبالاسترشاد بمقاصد التشريع وفقه الأولويات نجد ضرورة التفكير بطريقة مغايرة تحقق المصالح والأهداف وتيسر الأمور وتساعد المهتمين بهذه الصناعة، حيث إن وجود هيئة رقابة شرعية من شأنه أن يطمئن المتعاملين مع البنوك الإسلامية والذين اختاروا التعامل معها لكونها متوافقة مع الشرع، كما يمكننا أن نتفق إلى حد ما على أهمية إيجاد هيئة أو لجنة مركزية تعنى بإصدار وتحديث القرارات الشرعية، التي تنظم منتجات، وأعمال تلك المصارف، وحتى يكون الجهد أكثر من كلمات وجمل في مقالة فإنني أوصي بـ:
ــــ ضرورة التحول إلى العمل المؤسسي وذلك بأن يكون هناك مركز للفتوى المصرفية يحل محل الهيئات الشرعية، ويضم نخبة وصفوة من شيوخنا وعلمائنا أعضاء الهيئات الشرعية، إضافة إلى أعضاء ممثلين عن البنوك المركزية والمصارف الإسلامية للدول التي يوجد بها بنوك تقدم خدمات متوافقة مع الشريعة الإسلامية، هذا إلى جانب عضوية الهيئات المعنية بالمصرفية الإسلامية مثل المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، والهيئة الإسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل.
ــــ توحيد المرجعية الشرعية للمؤسسات المالية، شريطة أن تتصف بالوسطية وعدم اللجوء إلى الأقوال التي نص الفقهاء على شذوذها، وعدم خروجها عن القواعد العامة المتفق عليها، كما لا يجوز الأخذ بأقوال المذاهب التي لم تُنقل نصوصها عن فقهائها المعتمدين نقلا موثوقا به، ومن الأهمية بمكان العمل بشكل حثيث والاجتهاد ومحاولة التوحيد وأن يكون ذلك عن طريق العرض والتشاور، وليس عن طريق الإلزام أو الإجبار، مما ينتج عنه في الغالب توحيد الفتاوى أو التقريب بينها قدر الإمكان.
ــــ الفصل بين الفتوى والتدقيق، وأن يكون هناك تدقيق خارجي أسوة بالمراجعة الخارجية للقوائم المالية لتلك المصارف تعزيزا لاستقلالية وموضوعية عملية المراجعة والمراجعين.
ــــ أن تصدر الفتاوى بعدد من اللغات إضافة إلى اللغة العربية حتى يتم الاستفادة منها في حالات الانتشار في البلاد المختلفة.
وختاما أضم صوتي للرأي المنادي بضرورة نشر الفتاوى كضرورة لنشر الوعي والثقافة المالية اللازمة لأعمال الصيرفة والتمويل الإسلامي, إضافة إلى الشفافية والوضوح في أعمال الهيئات الشرعية ليكون جميع الأطراف (البنك، العميل، المراقب الشرعي) على بينة ووضوح من الشروط والضوابط الواجب اتباعها, كما أنها تعطي العلماء وطلاب العلم من خارج الهيئات الشرعية الفرصة لمراجعة فتاوى الهيئات والتعقيب عليها والاستدراك، وهو أمر ضروري لضمان سلامة مسيرة الهيئات الشرعية وتسديدها, إضافة إلى إتاحة الفرصة لتلاقي فتاوى الهيئات المختلفة على أسس مشتركة والسعي نحو توحيد الحد الأدنى من الفتاوى الشرعية في مجال الأعمال المصرفية والمالية، وهو ما يضمن نمو الصناعة واستقرارها.
كاتب وخبير اقتصادي