متى تُعوِّم الصين عملتها؟

كثر الجدل حول العملة الصينية ودورها في الاقتصاد العالمي وتحرير سعر صرفها، فالصين اقتصاد صاعد لا يمكن إلا أن يلعب دورا أساسيا في الاقتصاد الدولي. فقد استطاعت الصين أن تحقق معدل نمو اقتصادي خلال العقد الماضي في المتوسط 10 في المائة. أسهم النمو المرتفع لاقتصاد الصين في تقدم الاقتصاد الصيني إلى المرتبة الثانية عالميا في حجم الناتج المحلي الإجمالي بعد أن أزاحت ألمانيا واليابان لتحتل ثاني أكبر اقتصاد بعد الولايات المتحدة. وتجمع أغلبية الدراسات على أن الاقتصاد الصيني سيتجاوز نظيره الأمريكي خلال عقد من الزمن ليصبح بحلول النصف الأول من 2020 الاقتصاد الأكبر في العالم. وأسهمت الأزمة العالمية في زيادة الأهمية النسبية للاقتصاد الصيني في الاقتصاد العالمي، لما يتمتع به من حوافز نمو واحتياطيات ضخمة. إن المتغيرات الاقتصادية للاقتصاد الصيني ستنعكس على قيمة العملة الصينية والدور الذي من الممكن أن تلعبه في سوق العملات وإدارة الاقتصاد الدولي (وقد تم التفصيل في ذلك في مقالة في ''الاقتصادية'' بعنوان مستقبل الريال السعودي), فخلال الفترة الماضية اعتمدت الصين على ربط عملتها بالدولار الأمريكي بعلاقة ثابتة، وقبل الأزمة الاقتصادية العالمية وتحت الضغط الأمريكي، فكت الصين جزئيا العلاقة بين الدولار واليوان من خلال ربط اليوان بسلة عملات من بينها الدولار وبوزن عال لتحقيق استقرار صرف مستقر بين الدولار واليوان. لكن بعد الأزمة العالمية في 2008 ألغت السلطات النقدية في الصين الربط بالسلة ورجعت مرة أخرى للربط بالدولار.
والسؤال الذي قد يسأله القارئ الكريم هو: لماذا هذا الإصرار من السلطات النقدية في الصين على استمرار الربط؟ تعتمد الصين على الصادرات السلعية لتحقيق النمو الاقتصادي، وتعتبر السوق الأمريكية من أهم الأسواق للسلع الصينية, ومن خلال ربط اليوان بالدولار فإن الصين تضمن ثبات سعر السلع الصينية مقابل الأمريكية, ما يحقق وضعا تنافسيا للسلع الصينية في الأسواق الأمريكية. هذا الوضع ينطبق كذلك على الدول التي ترتبط بالدولار, إضافة إلى أن السوق الأوروبية في ظل الضغوط الاقتصادية للدولار للارتفاع تمثل سوقا للسلع الصينية يصعب منافستها. لذا حرصت الصين على استمرار الربط مع الدولار على الرغم من الضغوط الأمريكية والتهديدات من قبل الكونجرس الأمريكي لفرض عقوبات على الاقتصاد الصيني. وبما أن نمو الاقتصاد الصيني معتمد على عوامل خارجية أخرى من النمو الداخلي, فإن السلطات النقدية في الصين ستستمر في ربط العملة الصينية بالدولار على الرغم من المخاطر التي يواجهها الاقتصاد الصيني من جراء الربط, التي من أهمها التضخم. فأي اقتصاد يثبت قيمة العملة مقابلة عملة أخرى ويحقق فائضا في ميزان المدفوعات، لا بد أن يعاني الآثار التضخمية, لأن عرض النقود في هذا الاقتصاد يصبح متغيرا داخليا لا تستطيع السلطات النقدية التحكم فيه، والأدوات النقدية للتحكم في السياسة النقدية محدودة، ويتأثر البلد بالسياسة النقدية للدولة المرتبط بها. لذا نلاحظ أن التضخم في الصين قبل الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 تجاوز 6 في المائة، وكان مرشحا للصعود، وأدت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى انخفاض التضخم خلال 2008 و2009، بينما عاود التضخم الارتفاع في 2010 ليتجاوز 5 في المائة, ما اضطر البنك المركزي الصيني لأخذ بعض الإجراءات لتخفيف حدة التضخم, التي يصعب عليه إدارتها في سعر صرف ثابت. والسلطات النقدية الصينية في موقف حرج بين تحمل تكاليف التضخم الاقتصادي الباهظة أو التأثير في النمو الاقتصادي من خلال تعويم العملة. وبالتالي أتوقع في الفترة القادمة أن تتحول الصين إلى الربط بسلة عملات لتسمح بالارتفاع التدريجي لليوان واستمرار منافسة السلع الصينية في الأسواق العالمية، حيث لا يزال الطلب الخارجي والصادرات تمثل أهم محفزات النمو للاقتصاد الصيني، والطلب المحلي العائلي منخفض مقارنة بإمكانات الاقتصاد الصيني. كما أن الوضع العالمي وضعف الاقتصادات الغربية سيجعلان العملة الصينية من العملات المهمة في الاقتصاد العالمي خلال هذه الفترة.
ومع استمرار الصين في تحقيق معدلات النمو المرتفعة واستمرار ارتفاع الطلب المحلي, الذي ينمو في المتوسط خلال العقدين الماضيين في حدود 6 في المائة سنويا، فإن الطلب المحلي سيبدأ يشكل أهم مصادر النمو للاقتصاد الصيني بارتفاع الطلب المحلي ليصبح أهم محفزات النمو للاقتصاد الصيني، فإن الصين ستجد أن السياسة الرشيدة التي تحقق متطلبات النمو الاقتصادي هي التحول إلى سياسة سعر صرف معوم. وبالتحول لسياسة الصرف المعوم فإن السلطات النقدية في الصين تصبح لديها المرونة الكافية لإدارتها بما يناسب الاقتصاد الصيني. وبتعويم اليوان وارتباطه مباشرة بالمتغيرات الأساسية للاقتصاد الصيني، يبدأ اليوان في لعب دور رئيس في الاقتصاد العالمي منافسا الدولار واليورو في إدارة الاقتصاد العالمي، والمتوقع أن تتزامن هذه الفترة مع بروز الاقتصاد الصيني كأكبر اقتصاد في العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي