هل سيكون عندنا كبار سن في المستقبل؟
هناك من يتهم الثقافة العربية بأنها ثقافة تهرب من الأسئلة الصعبة والثقيلة على الذهن, وثقافة تتفادى الدخول في مناقشة وتحليل المشاكل والقضايا والأزمات التي يعاني منها الواقع, فهي ثقافة تريد للعقل أن يستقيل وللنفس أن تستريح من مشاكسة الواقع وما يحويه من تحديات وما يخبئ في داخله من عوائق وعراقيل. وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك ويتهم الثقافة العربية بأنها استطاعت وبنجاح كبير تفريغ الكثير من المصطلحات والقيم والمثل العليا من معانيها الحقيقية, فالحرية كمفهوم صارت تقدمها لنا هذه الثقافة على أنها فتنة وفوضى وانحلال أخلاقي ودمار اجتماعي وبالتالي صار الاحتماء بقيم الخنوع والعبودية والاستسلام هو الخيار الوحيد المتاح أمامهم. حتى الديمقراطية التي فهمتها شعوب العالم بأنها الأداة المجربة لتفعيل مشاركة المجتمع في تدبير أموره وإدارة نفسه صرنا نفهمها بفضل ثقافتنا المتخلفة على أنها مهرجان لتكريس تبعيتنا للأشخاص والقبائل والمذاهب وبالتالي فليس من المستغرب أن تتحول الانتخابات في مجتمعاتنا إلى أشكال مشوهة ونماذج خاوية للديمقراطية ومشاركة المجتمع في صناعة القرار. وأما الإدارة كمفهوم يرتبط بتنسيق الجهود والتخطيط للمستقبل والاستخدام الحكيم للموارد صرنا نفهمها على أنها سيطرة وتسلطن وامتيازات وفرصة للإثراء غير المشروع, فهذا العيب الثقافي في نظرتنا للإدارة جعل من الإدارة في نظرنا ممارسة منحطة وغير أخلاقية ولا يريدها ولا يسعى لها إلا من هو فاسد, وبالتالي كيف للمجتمع أن ينهض بنفسه وهو يفهم أن الإدارة هي فساد وفاسدين ولا يخرج منها صلاح ولا مصلحين. وحتى كلمة الوعي نالها من الزيف والتحريف ما جعلها كلمة هزيلة ولا تمت بصلة إلى معناها الحقيقي, فالوعي هو منطقة يشترك في صناعتها الفكر والعاطفة والعقل والنفس لتحصين الفرد والمجتمع من قبول الوهم على أنه حقيقة ومن الرضا بالأشكال التي ليس لها وجود حقيقي على أرض الواقع, وبمثل هذا الفهم للوعي غابت الشعوب ولم يعد لها من دور في تشكيل حياتها وترتيب خياراتها وصياغة مستقبلها, فعندما قلبت الثقافة العربية كلمة الوعي إلى كلمة لا تحوي في معناها إلى ما يوحي باليقظة والتفاعل مع الواقع والانفتاح على ما هو جديد في الجانب الفكري والعلمي والثقافي صار عودة الوعي مرهون بعودة الثقافة إلى مسارها الصحيح.
والمستقبل كفكرة وكمفهوم هو الآخر ضحية من ضحايا الثقافة العربية, فليس من المستغرب أن لا تنشغل الشعوب العربية بالتفكير في المستقبل وثقافتها هي لم تقلع بعد من الماضي. فكيف للمجتمع أن يفكر بالمستقبل وكل ما في الثقافة يدير رؤوسنا إلى الوراء إلى حيث الماضي بشخوصه ورموزه وحوادثه. فكيف للمستقبل أن يكون له حضور عندنا ونحن نفهم الزمن على أنه المركبة التي نصعدها لتأخذنا إلى الماضي لا إلى المستقبل, فثقافتنا باتت تشكل سدا منيعا وسورا عاليا يمنعنا من التقدم إلا إلى الماضي. لا بل صار الحديث عن المستقبل والانشغال في التفكير به وبمتطلباته ومستلزماته هو نوع من أنواع البدع غير الحميدة وهو محاولة مشبوهة لتغريب المجتمع واقتلاعه من جذوره الأصلية. وبهذا الفهم الثقافي غير السوي صار المستقبل, كل المستقبل, كائنا غريبا وغير مرحب به في ثقافتنا الجمعية, وعندما يغيب المستقبل تضطرب حركة الحاضر ولا يعد بمقدور الناس إلا الانقلاب على ثقافتهم حتى يتسنى للمستقبل أن يفتح أبوابه أمام هذه المجتمعات التي ظلت طويلا تراوح مكانها في عالم تتسابق فيه الشعوب والمجتمعات إلى امتلاك مستقبلها وتأكيد حضورها ووجودها في عالم ما بعد الحاضر. ومن الأسئلة الصعبة التي علينا أن نواجهها وأن نجتهد في البحث عن إجابات مقنعة لها هو أثر ما نعيشه من مشاكل وأزمات في الوقت الحاضر على شكل حياتنا في المستقبل. لا ينفع الأمل بمستقبل باهر ولا التطلع إلى حياة أكثر تنظيما ورقيا ونحن نهرب من مواجهة الحاضر على ما فيه من مشاكل وأزمات. فالعيب ليس بوجود المشاكل ولا بظهور الأزمات ولكن العيب كل العيب أن نهرب من هذه المشاكل وأن لا نتعامل بجدية مع هذه الأزمات. ولعل من أهم المشاكل وأخطر الظواهر التي علينا اليوم مواجهتها هي الطبيعة الخاطئة في الكثير من مظاهر حياتنا, فهناك أشكال من الممارسات باتت فعلا تهدد حياتنا وشكل مستقبلنا, فنحن صرنا فعلا لا نعرف كيف نأكل ونشرب ونتغذى ونستمتع بأوقاتنا وبمناسباتنا وبتنا ندفع من أعمارنا ومن سنين حياتنا ثمنا لهذه الممارسات الخاطئة. فمن المؤشرات المهمة في تطور الشعوب معدل أعمار الناس, فكلما امتد عمر الناس مع الصحة والحياة الكريمة كان ذلك مؤشرا على نجاح المجتمع في مشروعه التنموي وقدرته على إدارته لنفسه. فهناك اليوم ممارسات خاطئة وأشكال حياة غير صحيحة جعلتنا نتساءل ولنا الحق في ذلك, هل سيكون الجيل الحالي قادرا على أن يعيش زمنا أطول من الأجيال السابقة, هل ستنتهي هذه المشاكل والأخطاء بنا إلى الموت قبل أن نصل إلى بدايات مراحل الشيخوخة المعتادة في الوقت الحاضر.
هناك أربعة تحديات, ونقول تحديات وليس أزمات, وإننا قادرون على مواجهة هذه التحديات وتجاوزها بشرط أن نوجه ونستثمر ما عندنا من قدرات وإمكانات في هذه المواجهة. فالفشل في هذه المواجهة يعني فعلا ــ وهذا له أسس علمية ثابتة ــ أننا نخاطر بحياتنا ونقصر من أعمارنا, وهذه التحديات الأربعة باختصارهي:
1- التغذية غير الصحية: هناك ظاهرة تكاد تكون عامة وهي أن طعامنا غير صحي, وأن تغذيتنا لا تتم بالشكل الصحيح, والدليل على ذلك مؤشرات كثيرة ومتعددة, فالسمنة عندنا في ازدياد وبالأخص عند الأجيال الشابة مما يؤدي إلى الإصابة وبشكل مبكر بأمراض القلب والسكري وضغط الدم. إن الأطباء والعلماء يؤكدون في دراساتهم وبحوثهم أن كل مرض من هذه الأمراض التي تسببها السمنة تنتقص من عمر الإنسان بحدود خمس إلى عشر سنوات, وكلما بكرت هذه الأمراض زادت من خسارة الإنسان في عمره. ماذا يعني أن يكون ثلث السكان في المملكة مصابين بالسكر وما يقارب من نصفهم مصابين بالضغط؟ ومن أهم الأسباب المؤدية لهذه الأمراض السمنة, وبالتالي ليس هناك أخطر منها على صحة الإنسان.
2- التدخين بكل أنواعه: هناك اليوم ستة ملايين مدخن ومليون مدخنة في المملكة وسيصل عدد المدخنين إلى عشرة ملايين إنسان مدخن في غضون سنوات قليلة قادمة, وما يصرفه سكان المملكة على التدخين قد تجاوز العشرة بلايين ريال سنويا وهذا يضعها في المرتبة الرابعة عالميا. هذه الأرقام تخص التدخين المباشر وهناك التدخين السلبي, وكارثة الشيشة والتي تعتبرها منظمة الصحة العالمية أنها أخطر من التدخين, لأن الرأس الواحد من الشيشة يعادل في دخانه ما يفوق المائة سيجارة. والعلم يقول إن السيجارة الواحدة تقفز بالإنسان أكثر من ألف وخمسمائة خطوة جينية نحو الإصابة بمرض السرطان. فالتدخين ثمنه الموت المبكر وهذه الحقيقة مؤكدة طبيا وعلميا وكلما طالت ممارسة الإنسان لهذه العادة القاتلة ازدادت خسارته من عمره.
3- الكسل وعدم ممارسة الرياضة: عندما يمارس الإنسان الرياضة بانتظام فإنه يعزز من مناعته ضد الأمراض, وبالتالي يكون الكسل وعدم النشاط وعدم ممارسة الرياضة بالشكل المطلوب مع وجود السمنة والتغذية غير الصحية هي خلطة مخيفة ومرعبة تقصم عمر الإنسان وليس تنقصه فقط. فالمطلوب أن يكون هناك اهتمام على مستوى الوطن كله لتشجيع الناس على ممارسة الرياضة وليس مشاهدتها وبالأخص في المدارس.
4- الضغوط النفسية: ما عادت الحياة بسيطة كما في السابق, وهذا التعقيد الذي يزداد تعقيدا في طبيعة الحياة ينتج كافة أنواع الضغوط النفسية على الإنسان, وهناك أرقام مقلقة جدا يذكرها بعض الخبراء النفسيين عن اتساع ظاهرة الاكتئاب والقلق عند الشباب وعند طلاب المدارس وبين النساء, ومما يزيد قلق هؤلاء الخبراء ضعف ثقافتنا النفسية وعدم توافر الرعاية المتكاملة لهؤلاء الذين يعانون هذه الاضطرابات النفسية. بالتأكيد هناك علاقة بين ظاهرة الاضطرابات النفسية ومشكلة البطالة والفقر, والمرض النفسي كما هو المرض البدني إن لم يكن أشد منه, وإذا لم تتم معالجته والتعامل معه قد يؤدي بالإنسان إلى الموت المبكر.
فالسؤال, هل سيكون عندنا كبار سن في المستقبل؟ هو سؤال مشروع ومنطقي في ظل هذه التحديات الكبيرة. نعم هذه التحديات تواجهها أكثر شعوب العالم اليوم ومنها الشعوب المتقدمة, ولكن هناك هبة اجتماعية في الكثير من هذه المجتمعات من أجل العودة إلى الحياة بشكلها الطبيعي والصحي. فمحاربة التدخين والترويج إلى التغذية الصحية والتشجيع على ممارسة الرياضة وتثقيف الناس عن كيفية التعامل مع ضغوطهم النفسية كلها باتت من المسائل الوطنية التي يتحتم على الجميع الاهتمام بها.