قضية الإسكان في ظل عودة الملك
أبدأ بالتهنئة الخالصة لأبناء الوطن بعودة مليكهم القائد، هذه العودة التي انتظرها الجميع لمواصلة مسيرة التنمية وإدارة الدولة، مع أن غيابه عن أرض الوطن لم يكن غيابا عن التفاعل مع الأحداث الدائرة فيه وحوله؛ إذ كان على مدار الأشهر الثلاثة الماضية حاضرا في خضم الأحداث المحلية والإقليمية والدولية. وأزف التهنئة الخالصة كذلك لملك القلوب على عودته لأرض الوطن، وعلى هذا الحب الجارف الذي عبرت عنه جحافل المستقبلين والمحتفلين في شوارع مدن المملكة قاطبة. فهنيئا للملك بهذا الحب، وهنيئا للوطن وأهله بعودته سالما معافى.
عودة الملك يوم الأربعاء الماضي تزامنت مع صدور عدد من القرارات بلغ عددها 19 قرارا. هذه القرارات جاءت لتعبر عن معايشة حقيقية لواقع الوطن والمواطنين، ومعرفته بما يعانونه من مشكلات تؤرق حياتهم. وفي الحقيقة، فإن هذه القرارات، على الرغم من أنها تمثل نقلة نوعية في التعاطي مع احتياجات المواطنين، إلا أنها لن تحقق الأثر المأمول دون تفاعل حقيقي من أجهزة الدولة ذات العلاقة. إذ إن الدعم المالي الكبير الذي وفرته هذه القرارات يتطلب آليات فاعلة لتوظيف حكيم يحقق العوائد التنموية المأمولة منها. هذا التفاعل الذي أتحدث عنه لا يعني فقط التنفيذ الفوري والجاد لهذه القرارات؛ إذ إن هذا التنفيذ سيأتي عبر الآليات القديمة ذاتها التي يدور حولها الكثير من الجدل والنقاش، بل إنه يتطلب أيضا مسعى جادا لتحقيق نقلة نوعية على المستوى المؤسساتي، ومراجعة فاعلة لآليات العمل في مختلف الجوانب التي تناولتها تلك القرارات. إن الدولة وعلى رأسها هذا الملك الصالح لم تبخل يوما بتوفير الموارد والمتطلبات المالية اللازمة لدعم مسيرة التنمية وتلبية احتياجات المواطنين. لكن هذا السخاء المالي لم يحقق في بعض الأحيان مسعاه المأمول، وهو ما جعل بعض المشكلات تبدو كما لو كانت مستعصية على الحل. إن كل طروحات النقاش والحوار التي يطرحها كتاب الرأي لم تتناول بالنقد في أي وقت جانب الإسهام المالي من قبل الدولة في حل مشكلات التنمية، لكنها كانت دوما تسعى إلى تحقيق تغيير نوعي في توجهات واستراتيجيات إدارة التنمية، وارتقاء فاعل بآليات عمل أجهزة الدولة وأداء موظفيها، حتى تحقق المساعي المبذولة الأهداف المرسومة، ويتحقق الرخاء للوطن والمواطنين.
إحدى القضايا التي أقصدها بحديثي هنا قضية الإسكان، إذ تضمنت قرارات الأربعاء الماضي قرارين يتعلقان بهذه القضية. الأول هو دعم ميزانية الهيئة العامة للإسكان بمبلغ 15 مليار ريال، والآخر هو دعم ميزانية صندوق التنمية العقاري بمبلغ 40 مليار ريال. ومع أن تخصيص هذه المبالغ يعبر عن اهتمام كبير من الدولة ومليكها بقطاع الإسكان، إلا أن هذا الاهتمام يجب أن يتسق مع مراجعة جادة لآليات عمل هاتين المؤسستين اللتين تضطلعان بأدوار رئيسة وحيوية في إدارة هذا القطاع الحيوي. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، خاصة منذ نشأة الهيئة العامة للإسكان قبل قرابة ثلاث سنوات، كان مجمل النقاش الدائر على صفحات الجرائد يتناول بالنقد والتحليل آليات عمل هذين الجهازين، والحاجة الملحة إلى مراجعة هذه الآليات لتحقيق الفاعلية المطلوبة منهما في معالجة مشكلات هذا القطاع. كما أن قرارات مجلس الوزراء الموقر الأخيرة أكدت هذا المطلب، خاصة فيما يتعلق بصندوق التنمية العقاري، الذي دأب على العمل وفق الآليات ذاتها على مدى الـ 40 سنة الماضية، دون أن يحقق أثرا حقيقيا في معالجة المشكلة، بالنظر إلى كم الطلبات المتراكمة لديه للحصول على قروض الإسكان.
قلت سابقا، وقال غيري الكثيرون: إن صندوق التنمية العقاري عليه أن يعمل لرفع فاعلية توظيف موارده الضخمة عبر توجيهها لدعم وتمويل تطوير المساكن من قبل مطورين متخصصين وأكْفاء، عوضا عن الاستمرار في ترسيخ آليات البناء الفردي للمساكن. وقلنا إن الصندوق يجب أن يتحول إلى بنك للإسكان ليتمكن من تأسيس برامج للادخار ترتبط بتوفير وحدات سكنية للمواطنين، وتقديم قروض تنموية موجهة للتطوير المؤسسي للمساكن. وقلنا إن الصندوق وإن استمر في تقديم القروض الفردية، فإن عليه أن يطور آليات منح القروض لتحقيق العدالة النوعية في منح القروض عوضا عن المساواة الظالمة التي يمارسها وفق آلياته الحالية. وقلنا إن الصندوق عليه أن يوجه جزءا من موارده الضخمة لدعم جهود البحث والتطوير لتحسين آليات وأنظمة بناء المساكن، والارتقاء بمعايير الجودة فيها، حتى يمكن أن تحقق متطلبات الجهات التمويلية العاملة وفق أنظمة الرهن العقاري، عوضا عن البنية العمرانية المتهالكة التي أنتجتها الآليات الحالية للصندوق. وقلنا أيضا إن الهيئة العامة للإسكان يجب أن تؤدي دورها الحقيقي في تنظيم وتطوير قطاع الإسكان عوضا عن الانخراط والغوص في البناء المباشر للمساكن. وقلنا إن الهيئة لن تتمكن مهما حشدت من جهود، ومهما وفرت لها الدولة من موارد مالية، أن توفر كم المساكن المطلوب وفق الأرقام التي أوردتها خطط التنمية، خاصة في ظل شح الأراضي الذي تشتكي منه الهيئة. وقلنا إن الهيئة أخطأت بالتحول إلى مطور عقاري مكبل بقيود أنظمة المشتريات الحكومية، وهي القيود ذاتها التي ينظر إليها الكثيرون، وأنا منهم، على أنها السبب الرئيس في ظاهرة تعثر المشاريع الحكومية. قلنا كل هذا وغيره الكثير، وكل ما قلناه ليس الهدف منه التقليل من جهود هذه الأجهزة، لكن الهدف هو السعي إلى تحقيق الجدوى المأمولة من هذه الجهود وتلك الموارد المالية الضخمة التي وفرتها الدولة بسخاء، التي كان آخرها تلك المخصصات التي تضمنتها قرارات الأربعاء الماضي.
خلاصة القول، إن تلك القرارات لا تمثل فقط تأكيدا من المليك والدولة على أهمية هذه القضية، لكنها توقع مسؤولية كبرى على القائمين على هذه الأجهزة لتحقيق الأهداف المرجوة منها. وسبق أن أكد الملك هذه المسؤولية، وقال إنه لن يقبل أي تقصير في أداء المهام في ظل هذا السخاء الذي نشهده في توفير الموارد المالية التي تتطلب التوظيف الأمثل لتحقيق أهداف التنمية. إنني وزملائي كُتّاب الرأي إذ نطرح هذه المرئيات، فإننا لا نهدف إلا إلى تحقيق المصلحة العليا لإنجاح مسيرة التنمية، فنجاح أولئك المسؤولين لن يعود على أي أحد بمصالح شخصية، بل إنه سيعود بالخير والرخاء على الوطن والمواطنين؛ تلبية لتطلعات هذا الملك الصالح الذي فرح الوطن كله بعودته سالما، فما من وسيلة للتعبير عن هذا الفرح أجمل وأجدى وأوقع من عمل جاد لتحقيق تطلعاته وأداء الأمانة التي ألقاها على عواتق أولئك المسؤولين.