ثقافة التسلطن
بالتأكيد إننا اليوم في العالم العربي ندخل في زمن جديد وأمامنا مرحلة لم تتضح معالمها بعد, فالرغبة في الإصلاح بات صوتها أعلى من ذي قبل, فالمشاكل التي تراكمت عبر عشرات السنين من دون حل قد تحولت إلى أزمات خانقة، والإخفاقات التنموية التي لم يعترف بها من قبل ولم يلتفت إليها أنتجت إحباطا قويا في نفوس الناس، والمواطنة التي سحقت تحت عجلات الشعارات المزيفة والمبادئ المفرغة ارتدت لتشحن النفوس بطاقة تنتظر الفرصة المواتية لتدفع بالناس للمطالبة بحقوقهم كمواطنين, طاقة تدفع بالمجتمع لاسترداد هذه المواطنة وبعث الحياة فيها من جديد.
وما دام العالم العربي على وشك الدخول في هذه المرحلة الجديدة وهذا الزمن الجديد فلا بد له من أن يلتفت إلى ثقافته, فلكل زمن ثقافته الخاصة به, والخطر كل الخطر أن تنتقل هذه الشعوب إلى المرحلة الجديدة بثقافتها نفسها، وعندها تتغير الأشكال والمسميات ويستبدل الأشخاص وتبقى الأمور على حالها. فالتغيير إلى الأحسن والإصلاح نحو الأفضل يتحقق وينجز على أرض الواقع بقدر ما يصاحبه من تغيير في المجال الفكري والثقافي. ولعل من أهم الأسباب الرئيسة وراء فشل كل المحاولات للنهوض بالمجتمع العربي وتنميته ماديا ومعنويا وحتى أخلاقيا هو أن هذه المحاولات أرادت للتنمية أن تنهض بنفسها من دون ثقافة تدعمها وتستند إليها. فالأفكار الصحيحة لا بد من أن تسبق الأفعال والتطور والتنمية المادية لا بد من أن يسبقه تنمية وتطور للإنسان من الداخل، والثقافة هي حجر الزاوية في بناء الإنسان, فالإنسان هو من ينتج التنمية وهو من يطور الحياة، وعندما يخسر الإنسان نفسه يعجز من أن ينتج لنفسه التطور والعزة والحياة الكريمة.
فالإصلاح الثقافي هو الفضاء الذي يتحقق فيه التغيير الحقيقي الذي تنشده اليوم المجتمعات العربية، وبالتالي لا بد من أن يتحقق هذا الإصلاح لئلا يحيد هذا التغيير عن مساره الطبيعي ويتحول إلى فتن تعصف بالمجتمع وتفكك مكوناته وتهدد مستقبله، أو أنه يفشل هذا التغيير ويتحول إلى انتكاسة تضاف إلى قائمة الانتكاسات المدوية في تاريخه. وأول خطوة مهمة في طريق الإصلاح الثقافي هو الإمساك بأمهات المسائل والأفكار والرؤى والقيم التي خربت الثقافة العربية وعطلت دورها في إصلاح الإنسان العربي كإنسان أولا. فالإنسان العربي قد فقد من إنسانيته الشيء الكثير بسبب تخلف ثقافته, فصار مقلدا أكثر بكثير مما هو مبدع وصار مستنسخا للأفكار والرؤى والقناعات أكثر مما هو مفكر ومنتج لها, وصار مختزلا مناطقيا وقبليا ومذهبيا أكثر مما هو متحرر وصار منفعلا لا يتحرك إلا في المساحات الضيقة التي لها تماس مباشر مع عاطفته أكثر مما هو فاعل ومتفاعل وعقلاني مع قضاياه المحورية وهمومه الرئيسة. ولعل من أهم أمهات المسائل التي عصفت بالثقافة العربية وأسهمت بشكل كبير في إنتاج هذا الواقع العربي المتخلف وتدويره ليتناسب مع الظروف المستجدة هي مسألة السلطة وما تنتج منها من ممارسات تكرس من علاقة التبعية والتسلطن بين مكونات المجتمع.
قد تندهش الشعوب في العالم وهي تتابع ما يحدث في ليبيا من تطورات وهي ترى كل هذا الإصرار وكل هذا العناد وكل هذه القسوة التي يبديها حاكم ليبيا من أجل البقاء في السلطة مع رفض الشعب بأكمله له ولنظامه. فالقذافي لم يتصور قط أنه سيتنحى عن الحكم, بل إنه يعتقد أنه سيبقى يحكم ليبيا حتى بعد موته, فكيف لشعب حسب ظنه أن يتخلى عن محرره ورمز عزته، وبالتالي فهو يعتقد أن الشعب الليبي سينصب له التماثيل في الميادين العامة بعد موته ليحج إليها في مناسباته الوطنية وليستلهم معاني العزة والكرامة من هذه الصور والتماثيل, فهو يؤمن بأن المهرجانات التي تلوح باسمه ويخطب فيها في حياته ستبقى على ما هي عليه وربما أكثر بعد مماته, فهذه الجموع من الناس ليس فقط في ليبيا بل في العالم كله ستبقى تستهدي بما ترك لهم من أفكار في كتابه الأخضر. هذا التمسك بالسلطة حتى ولو أدى الأمر إلى التضحية بالشعب والوطن هو قد ينبئ من جانب عن وجود عقد وتورمات نفسية عند هذا الزعيم آو ذاك، ولكنها من جانب آخر تكشف عن خلل عميق في ثقافتنا العربية التي أنتجت مثل هذا النوع من التسلطن في مجمل علاقاتنا بعضنا مع بعض ومع الآخرين.
فمفهوم السلطة والتسلطن لا بد من اقتلاعه من ذهنيتنا الثقافية من أجل مراجعته ويجب أن يتبع هذه المراجعة الفاحصة تصحيح لمكوناتها وتهذيبها وإعادة ترتيبها ومن ثم إعادتها إلى أذهاننا بشكل مغاير لا ينتج تسلطن بقدر ما ينتج تفاهم وتفاعل وتكامل واحترام للإنسان كإنسان. فتصحيح هذا المفهوم وإعادة تشكيله بالشكل الصحيح وربما باسم جديد في أذهاننا سيكون له مردود كبير علينا وعلى حياتنا, فالكثير من علاقاتنا العمودية والأفقية في مجتمعاتنا العربية مشوه بفعل هذا المفهوم الخاطئ للسلطة, وفي النقاط التالية استعراض موجز لبعض ما ستجنيه الشعوب العربية من المراجعة الثقافية لمفهوم السلطة.
1- استعادة الوطن: لعل الضحية الأولى لهذا المفهوم المشوه لمفهوم السلطة هو الوطن, فالسلطة بمفهومها الحالي المتجذر في ثقافتنا أنتجت حالة مرعبة من التسلطن سلبت الوطن بكل مقوماته ومكوناته الرئيسة. فالتسلطن الذي أنتجه هذا المفهوم الخاطئ للسلطة هو الذي أدى إلى استباحة للوطن بكل مقدراته، وبالتالي يكون التصحيح لثقافة مفهوم السلطة هو انتزاع وتنقية له من ممارسات التسلطن، وهذه هي الخطوة الأولى والأهم في طريق استعادة الوطن. فما يشاهده العالم اليوم في ليبيا هو في الحقيقة محاولة مستميتة يقوم بها الشعب الليبي من أجل استعادة وطنهم المسلوب والمستباح، ولن يبقى الوطن محفوظا ومأمونا من الاعتداء عليه والاستباحة مرة أخرى في المستقبل إلا بالإصلاح الثقافي لهذا المفهوم.
2- المواطنة: إن المواطنة هي الأساس المتين الذي لا غنى عنه للدولة الحديثة, فمن غير تفعيل للمواطنة يبقى الوطن مشروعا غير قابل للتحقيق على أرض الواقع. ولكن المفهوم الثقافي للسلطة من النوع الذي يؤدي إلى التسلطن ينتج حالة مضادة ومعاكسة لمفهوم المواطنة, فالتسلطن هو نزوع للقهر والإكراه والاستبداد وإخضاع الغير بالقوة، والمواطنة هي حالة تدفع بالإنسان إلى المشاركة في تحمل المسؤولية وإدارة شؤون حياته، وهي تعني له أيضا أن له حقوق يجب المحافظة عليها وواجبات يجب القيام بها. فليس من المستغرب أن يغيب المواطن ومفهوم المواطنة في الدول المستبدة، وبالتالي ما يتكفل به الإصلاح الثقافي من بين المسائل التي يتكفل باستعادتها هو مفهوم المواطنة. فعندما تتراجع السلطة عن ممارستها للتسلطن يعود المواطن إلى دائرة الوطن ويعود دوره في صياغة وتشكيل حياته.
3- العدالة الاجتماعية: إذا كانت حالة التسلطن تقوم في معظمها على ممارسات مبنية في الأساس على استلاب حقوق الآخرين والتعدي على كرامتهم، وبالتالي فإن التسلطن هي حالة نافية وطاردة للعدالة الاجتماعية. لا ننتظر من ثقافة تكرس من حالة التسلطن في المجتمع أن تخلق الظروف الملائمة والمناسبة لتثبيت العدالة الاجتماعية. ولا ننسى أن العدالة الاجتماعية هي الحصن الواقي لاستقرار المجتمع, فعندما يقبل المجتمع بوجود المشاكل والأزمات, وقد نجد منه صبرا واجتهادا على تحملها والتعاون على حلها والتصدي لها، ولكن كل هذا الصبر وكل هذا التعاون يختفي عندما يحس الناس بأنه ليس هناك من عدالة اجتماعية وأن هذه المشاكل ما هي إلا إفرازات ونتائج لهذا الغياب، وهنا يهتز أمن واستقرار المجتمع.
أخيرا يمكن القول إن هناك الكثير من المشاكل والأخطاء ما كان لها أن تكبر وتتضخم ويشتد تأثيرها السلبي لولا أنها تحتمي في وجودها بثقافة تدعمها وتكرس من حضورها, وثقافة التسلطن لها دور كبير في إيجاد المناخ الذي يساعد على إنتاج الكثير من المشاكل وأوجه الخلل في المجتمع. وعندما يتحول التسلطن إلى ثقافة فإن كل شيء يتأثر بها حتى ممارساتنا وعلاقاتنا التربوية والتعليمية والدينية والأسرية، وبالتالي يكون معالجة هذا النوع من الثقافة هو تصحيح لمسار الكثير من الأمور الاجتماعية.