الفساد .. سبب لاختلال الأمن وعدم الاستقرار
ما نشهده من أحداث جسام في بعض الدول كان نتيجة فساد متنوع، وظلم مستشرٍ فجّر المشاعر بثورات عارمة من المواطنين بعد أن نفد الصبر؛ نتيجة ما لحقهم من ظلم تسبب في تفشي الفقر والعوز بشكل لا يطاق، وبنسب كبيرة من المواطنين، فاختل الأمن، وانعدم الاستقرار، ووجد المجرمون الانتهازيون فرصة السطو والنهب والتخريب، فاعترف الحاكم بمطالب المواطنين، ووعد بالإصلاح، وقدم تنازلات، ولكن كل ذلك لم يقنع الثوار، وطالبوا بتنحي الحاكم وبطانته، وتعديل النظام القائم بما يكفل إصلاح الفساد المستشري، وحفظ الحقوق، ومعاقبة كل المفسدين، واسترجاع ما حصل عليه كل واحد منهم من الأموال العامة باستغلال نفوذه، وإساءة استعمال سلطته، وقد حصل ما حصل في تونس بمغادة الرئيس للبلاد وترك الرئاسة، وفي مصر تنحى الرئيس عن الرئاسة، وسلم السلطة للجيش، ولا ندري ماذا سيتم في دول أخرى؟ تحرك فيها بعض المواطنين في مظاهرات مشابهة، وهذا درس لا بد أن يستفاد منه في حرص كل دولة بالإصلاح الجاد والحقيقي، ومحاربة الفساد؛ وذلك لأن ظاهرة الفساد عالمية، ورجل الأمن الأول صاحب السمو الملكي النائب الثاني لمجلس الوزراء وزير الداخلية المطلع على خلفيـات الجرائـم التي ترتكب يقول: (إن الحديث عن الفساد لا يخص مجتمعا بعينه، أو دولة بذاتها، وإنما هو ظاهرة عالمية تشكو منها كل الدول؛ لما له من خطر على الأمن الاجتماعي والنمو الاقتصادي والأداء الإداري...) ''في تقديمه لكتاب الفساد الإداري - وجرائم إساءة استعمال السلطة الوظيفية - تأليف سليمان بن محمد الجريش - ط . 1424هـ/ 2003''.
إن من واجب كل حاكم والمسؤولين في سلطته المتنفذة، أن يهتموا بالإصلاحات الحقيقية في التطوير والتنمية، والاهتمام بخدمة واحتياجات المواطنين؛ لأن كل واحد قد حمل أمانة عظيمة فهو مسؤول أمام الله أولا، فإن لم يف بهذه الأمانة، فإن الله سوف يسلط عليه بما لم يتوقعه بتناسي مخافة الله بثورة عارمة من الموطنين كما حصل في الحالتين سالفتَي الذكر، وكذلك الاضطرابات في ليبيا وغيرها، بل وحالات سابقة سجلها التاريخ لا يمكن حصرها، ولكن نسيها أو تناساها عدد من الحكام وأعوانهم وبطانتهم.
ولذا، فإن ما حصل ويحصل فيه عبرة للمعتبر، ودرس وعظة يمكن استفادة كل حاكم ومسؤول بتعقل، وعدم نسيان نفسه في خضم ما أنيط به من سلطة، وصلاحيات فلا يستغل نفوذه لمصلحته الخاصة، ولمصلحة أفراد أسرته، وأعوانه وبطانته، فلكل ظالم ومستغل لنفوذه، أو مسيء استعمال سلطته نهاية غير حميدة، طالما نسي قول الله - عز وجل -: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58).
ولكن من الغريب - حقا - أن عددا من حكام ومسؤولي الدول لم يستفيدوا، ولم يتعظوا بما حصل لغيرهم من حكام الدول الأخرى سواء كانت ملكية أو جمهورية، وتدعي أن الحكم فيها ديمقراطي وعادل، مع أن المتحكم هو الحزب الحاكم الذين يستأثرون بالسيطرة التامة، ويستغلونها أبشع استغلال بفساد وأنانية، وخيانة الأمانة التي حمل بها كل فرد، ويدعي خلاف ذلك مثل المنافق الذي همه الفساد في الأرض، وقد وصـفهم الله في قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205)، بل قد يكونون أخطر من المنافقين لكونهم يسيطرون على الحكم، وتصريف الأمور لمصالحهم الخاصة خائنين للأمانة التي تتمثل في أداء الواجبات والمسؤوليات بالعدل والإنصاف والمساواة، وهم - بكل أسف - بعيدون كل البعد عن ذلك.
وفي بلادنا - ولله الحمد - فإن ولي الأمر - حفظه الله - حريص كل الحرص على الإصلاحات النافعة التي تسعد المواطنين، وتستجيب لاحتياجاتهم وتطلعاتهم، وحث الجهات الرقابية على مكافحة الفساد الإداري، وسبق أن أقر مجلس الوزراء الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والتي صدر بها قرار مجلس الشورى رقم (4/3) بتاريخ 13/3/1425هـ، ونص في البند (رابعا) على آليات تنفيذها بإنشاء (هيئة وطنية لمكافحة الفساد) تتولى المهمات المذكورة في نهاية صيغة الاستراتيجية في أربع فقرات، ولكن حتى الآن لم تُنشأ الهيئة لتتولى المهام المكلفة بها، ومنها تنفيذ الاستراتيجية ورصد نتائجها، وغير ذلك من المهمات الأخرى؛ إذ إن هذه الهيئة يفترض أن ترتبط مباشرة بالملك، وأن يكون رئيسها والعاملون فيها من المؤهلين، والمشهود لهم بالصدق في التعامل، والأمانة والنزاهة والحياد والاستقلالية، فضلا عن الكفاية والمقدرة.
فكل المواطنين يحبون الملك عبد الله بن عبد العزيز على أساس ما يشاهدونه من اهتمام صادق بالإصلاح من خلال ما أصدره من مراسيم وأوامر ملكية تحمل في طياتها إصلاحات كثيرة يصعب حصرها، والمهم في الأمر أن على الجهات التنفيذية سرعة التنفيذ، ولعل آخر ما أصدره - حفظه الله - من أوامر ملكية بمناسبة عودته من رحلته العلاجية، أسبغ الله عليه كامل الصحة والعافية، وأمد الله في عمره؛ إذ لا شك أنها بما تضمنته ستخفف الأعباء عن كاهل المواطنين، ولها آثار إيجابية واجتماعية واقتصادية.
وأكرر ما قلته إن على الجهات التنفيذية المسارعة في التنفيذ بعيدا عن الروتين، والإجراءات البيروقراطية الإدارية؛ لأنها تكون السبب في تأخير التنفيذ، والله الموفق والمعين، والهادي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.