دور التعليم العالي في تمكين الأعمال في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي
الرئيس التنفيذي وعضو مجلس الإدارة شركة "إس إيه بي" ـ فالدورف، ألمانيا
المستقبل المهني للطلبة الحاليين والمستقبليين يتحدد بمدى القدرة على التكيف والانفتاح على التغيير... وتبادل المعلومات بين النظري والعملي أحد أهم عناصر النجاح
أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من الحياة اليومية، يؤدي دورًا مهمًا في طريقة إيجادنا المعلومات على الإنترنت، أو استخدام هواتفنا المحمولة، أو التعرف على الموسيقى والأفلام التي تناسب أذواقنا. ومع ذلك، فقد بدأنا للتو في الاستفادة من أعظم قدرات الذكاء الاصطناعي في خلق القيمة؛ تمكين الشركات من تحقيق قفزات هائلة في القدرات التنافسية والإنتاجية، بدمج الذكاء الاصطناعي في العمليات التجارية، وبالتالي الاستفادة منه في آلاف القرارات والمعاملات التي تخلق القيمة كل يوم.
إن دمج الذكاء الاصطناعي في العمليات التجارية على نطاق واسع من شأنه تعزيز أداء الاقتصادات بأكملها، فضلًا عن تعزيز أداء الشركات الفردية. ويكتسب تأثير تطبيق الذكاء الاصطناعي أهمية خاصة في البلدان سريعة النمو التي تتبنى برامج تنموية قوية، كدول مجلس التعاون الخليجي، وذلك نظرًا لانفتاحها على التحول الرقمي واتساع شريحة الشباب المبدعين من سكانها.
وهنا أود أن أشير إلى شعور بالسعادة ينتابني في كل مرة أسافر فيها إلى منطقة الخليج، وألتقي بعدد متزايد من الشباب المتحمسين القادرين على تسخير التقنيات الرقمية على الوجه الأفضل لمصلحة مجتمعاتهم وبلدانهم. إن ثمّة فرصًا عظيمة تنتظر أن تُفتح من خلال التزويد الممنهج لهؤلاء الشباب الطموحين بالمهارات الأساسية في زمن الذكاء الاصطناعي. ولعل النهج الأكثر نجاحًا في تعليم التكنولوجيا الحديثة، في رأيي، يتمثل في الجمع قدر الإمكان بين العلم النظري والممارسة العملية.
إن التعلم المبني على أساليب الترفيه، أو ما يُعرف بـ "التعليم بالتلعيب"، يُعد أحد الأساليب الفعالة، إذ يمكن للطلبة، في عمليات المحاكاة الحاسوبية المتطورة مثلًا، إدارة شركات متخيَّلة باستخدام أدوات برمجية من عالم الواقع. ومع تقدم المشاركين في "اللعبة" يكتسبون خبرة عملية في حل تحديات الأعمال، مثل الاستدامة ومنَعَة سلاسل التوريد والتوسع التجاري حول العالم، ويطورون الكفاءات والمهارات المهمة لنجاحهم في اقتصاد المستقبل، كالتفكير التحليلي ورواية القصص بالبيانات ومهارات اتخاذ القرارات.
إن مثل أدوات التعليم الترفيهي هذه باتت اليوم متاحة مجانًا للجامعات في أنحاء العالم، وتعد جذابة لجيل نشأ مع تقنيات الترفيه والمحاكاة الرقمية، بفضل اتسامها بطابع من المرح.
هناك نهج آخر في التعليم هو النهج التكميلي، الذي يتمثل في السماح للطلبة بالعمل على دراسات حالة دقيقة باستخدام برمجيات أعمال متقدمة وأدوات ذكاء اصطناعي مستخدمة في شركات عالمية كبرى في العالم. فالمعهد الكوري المتقدم للعلوم والتكنولوجيا، وجامعة سنغافورة للإدارة، مثلًا، يمنحان الطلبة فرصة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي المخصصة للأعمال في مناهجهم الدراسية، لحل تحديات الاستدامة، مثل تحدي كفاءة الموارد في الزراعة.
ما إن يتعرف الطلبة على أساسيات البرمجيات المؤسسية الحديثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي للأعمال، ينبغي لهم الشروع في التدريب، إذ يستفيدون من التعرف على التحديات العملية المعقدة التي تواجه القطاعات في وقت مبكر وكلما أمكنهم ذلك، لتعلم مكامن الضعف التي يمكن معالجتها بالابتكار في الذكاء الاصطناعي.
الابتكار التعاوني
وعلى الجانب الآخر، ينبغي للمؤسسات السعي إلى إقامة علاقة وثيقة مع الجامعات لمواكبة أحدث التطورات، عبر التواصل النشط وتقديم دراسات الحالة والمشاكل العملية للطلبة من أجل النظر في إيجاد الحلول المناسبة لها، بهدف تبادل المعلومات بين الشقين النظري والعملي؛ حيث يعمل الطلبة على حل المشاكل العملية، ويظل الأساتذة على اطلاع بأحدث التوجهات التخصصية، ويواصل المتخصصون في القطاعات، بدورهم، مسيرة التعلم من خلال التعاون المستمر مع البيئات التعليمية.
سرعان ما غدت مراكز التعاون التكنولوجي لاعبًا مهمًا في معادلة الابتكار الحديثة، ولعلّ من خير الأمثلة على ذلك مركز "إس إيه بي" للابتكار، الذي افتتح في مدينة الخبر في السعودية في 2024، ويجمع بين خبراء إقليميين وعالميين في الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، وشركات مجاورة وناشئة وشركاء آخرين، ضمن مجتمع حيوي من الابتكار المشترك. إن الأفكار والأساليب الجديدة تخضع للاختبار والتحسين في مواجهة تحديات الأعمال على امتداد مجموعة من القطاعات الرئيسية. لذلك فإن أحد أهداف مركز "إس إيه بي" للابتكار يتمثل في الإسهام بتعزيز مكانة المملكة العربية السعودية وجهةً عالمية رائدة في مجال الابتكار، من خلال رعاية المواهب المتميزة وتطوير أفضل التقنيات وتصديرها إلى العالم، علمًا بأن لدى الشركة خطط لإنشاء مركز ابتكار آخر بالمستوى نفسه في الإمارات.
إن الجمع بين النظري والعملي يظلّ، من نواحٍ كثيرة، العنصر الأساسي للنجاح في زمن الابتكار. وعندما سُئل هاسو بلاتنر، أحد الأفراد الخمسة الذين أسسوا شركة "إس إيه بي"، عن سر النجاح في حياته المهنية، أجاب إجابته الشهيرة بأنه لم تكن لديه في البداية أية فكرة عن عمليات المحاسبة، ولكنه كان منفتحًا على التعلّم من المختصين الخبراء. وهكذا قام هو وشركاؤه ببرمجة أول أنظمة البرمجيات المؤسسية التي تشتهر بها الشركة.
واثق من أن الدرس الأساسي المستفاد من كلمات بلاتنر تلك، تغدو اليوم أكثر أهمية في زمن الذكاء الاصطناعي. لذا فإن تعليم الجيل القادم أحدث التقنيات هو الخطوة الأولى، ولكن أشياء عظيمة قد تحدث عندما نفسح المجال أمام العقول الشابة الموهوبة لصقل مهاراتها في مواجهة تحديات الواقع الاقتصادي.
خاص بـ"الاقتصادية"