قضية الإسكان وجدلية الحل

الحديث حول قضية الإسكان حديث متواصل تواصل القضية ذاتها، وطالما بقيت هذه القضية بمنأى عن حل جذري ستظل موضوعا للنقاش والجدل على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام المختلفة. وكلما كتبت أو قرأت شيئا حول هذا الموضوع أجد الكثير من التعليقات والردود التي تدور في معظمها في فلك الطرح والتفكير التقليدي حول القضية، وهو الطرح ذاته الذي ما زالت أجهزة الدولة المعنية تتبناه في تعاطيها مع القضية، وهو ما أجزم أنه لن يحقق لهذه الأزمة الحل المنشود، خاصة أن الآليات والوسائل التي يجري استخدامها لمعالجة المشكلة هي في رأيي التي أسهمت في خلق المشكلة من الأساس. هذا الرأي أثاره على وجه الخصوص مقال الأستاذ سعود بن هاشم جليدان الذي نشر في هذه الصحيفة يوم الأربعاء الماضي تحت عنوان ''حلحلة أزمة السكن''. ومقال اليوم أسعى فيه لمناقشة الكاتب الكريم فيما تضمنه مقاله، متطلعا إلى أن يكون هذا الطرح مؤسسا لتوجه مختلف للتعاطي مع هذه القضية.
أبدأ النقاش بعنوان المقال، حلحلة أزمة السكن، فالأزمة لا تحتاج إلى حلحلة، بل إنها تحتاج إلى حل جذري شامل قاطع يقطع المشكلة من جذورها. والحلحلة لا تعدو أن تكون بمثابة المسكن الذي يعالج آثار المشكلة بدلا من مسبباتها. والحل لا بد أن يكون مبنيا على فهم حقيقي لهذه المسببات، مجددا التأكيد على أن الحلول والآليات المتبعة حاليا هي في حقيقتها أحد مسببات المشكلة. الكاتب الكريم تحدث عن حجم المشكلة بالأرقام، وخص بحديثه صندوق التنمية العقاري، معتبرا إياه الوسيلة الأنجع لمعالجة المشكلة. قال الكاتب فيما قاله إن سبب أزمة الإسكان هي في تراكم طلبات القروض لدى الصندوق نتيجة نقص الدعم الموجه له في فترات سابقة، علاوة على تأخر الحاصلين على القروض في سداد المستحقات الواجبة عليهم. ومع أن هذا التحليل يمثل جانبا من الحقيقة، إلا أنه لا يعبر عن فهم حقيقي لطبيعة أزمة الإسكان ومسبباتها، ويختزلها في الجانب التمويلي الذي يقوم به الصندوق وفق آليات يدور حولها الكثير من الجدل. وأقول للكاتب وكل من يتبنى وجهة نظره، إن صندوق التنمية العقاري وإن قام بدور كبير ومؤثر في توفير عدد كبير من المساكن منذ تأسيسه قبل نحو 40 سنة، إلا أن الصندوق أسهم هو وبرنامج منح الأراضي في ترسيخ ثقافة البناء الفردي للمساكن، وهي الثقافة التي أنتجت بنية عمرانية رديئة ومتهالكة، وحملت المواطنين عبء بناء المساكن دون دراية ومعرفة بالجوانب الفنية والهندسية لعملية البناء، وحولت المملكة إلى بلد الأربعة ملايين مقاول، وهم المواطنون الذين بنوا بيوتهم بأنفسهم في ممارسة رديئة لآليات البناء. ومن جهة أخرى، فإن سياسة الصندوق لم تحقق التوظيف الأمثل للموارد المالية الكبيرة التي أتيحت له، ولم تتمكن من تأسيس صناعة محترفة لبناء المساكن؛ جراء غياب توجيه الدعم للمطورين العقاريين المتخصصين في هذا النشاط المتخصص.
يقول الكاتب الكريم إن الاستمرار في دعم صندوق التنمية العقارية هو من أنجع الوسائل لدعم بناء وملكية المساكن، وعد عددا من الأسباب التي رأى أنها تبرر هذا الرأي، بما فيها أن آليات الصندوق هي آليات قائمة وعاملة ومجربة وخالية من الفساد، وأنها توفر الحرية للأفراد لبناء مساكنهم بالكيفية التي يرغبونها، وأنه يعد آلية منخفضة التكاليف، حيث إنه يوفر قروضا سكنية عدة بتكاليف إنشاء منزل واحد. والحقيقة أن الكاتب سهّل عليّ تفنيد رأيه عبر تفنيد الأسباب التي ساقها، فحقيقة أن آليات الصندوق هي آليات قائمة لا يبرر الاستمرار في العمل بها إن ثبت عدم جدواها، وإلا كنا كمن قالوا قديما ''هذا ما وجدنا عليه آباءنا''. والأنظمة والآليات ليست كتبا منزلة ولا منزهة عن الخطأ والخلل، كما أنها لا يمكن أن تكون صالحة لكل زمان ومكان، ولا بد لها من التطوير والتعديل بما يتوافق مع تطورات وتغيرات المناخ المحيط بها، ومع المستجدات والخبرات العالمية التي يمكن أن تضيف لها الشيء الكثير. أما كونها آليات خالية من الفساد فهو كذلك لا يعني أن غيرها من الآليات لا بد أن يوسم بالفساد، فالفساد لا بد من محاربته بكل حال، ولا يمكن قبوله في أي شكل من أشكال آليات الحلول. أما أن هذه الآليات توفر الحرية للأفراد لبناء مساكنهم بالكيفية التي يرغبونها فهذا لعمري موطن الخلل؛ إذ إن هذا الواقع هو الذي أدى إلى رداءة وتهالك البنية العمرانية التي نراها في أحيائنا السكنية، خاصة في ظل غياب آليات الرقابة الفنية من قبل الأجهزة البلدية، وقصور الإمكانات الفنية لدى مقاولي هذه الطبقة من المشروعات، وهي الفئة التي تسيطر عليها المؤسسات الصغيرة التي تغلب عليها سيطرة الوافدين من غير ذوي الكفاءة. كما أن هذا الواقع يعد في الحقيقة من قبيل إيكال المهمة للأفراد، إيكالا أشغلهم عن القيام بأعمالهم الأساسية كل في مجاله، وهو ما أعتبره أحد أسباب تدني الإنتاجية لدى الموظفين الذين ينشغلون بمهام جانبية بعيدا عن مهامهم الأساسية. تخيل معي لو أن كل فرد كان لزاما عليه أن يزرع لنفسه ما يأكل، وينسج لنفسه ما يلبس، فكيف له أن يقوم بأعماله الحياتية التي يفترض أن تكون مصدر رزقه الأساسي؟.. ولماذا يكون توفير المسكن أمرا مختلفا عن توفير المأكل والمشرب والملبس التي يحصل عليها الناس من الأسواق في شكل منتجات جاهزة تمر بدورات إنتاجية مهيكلة؟.. آخر المبررات التي ساقها الكاتب الكريم هو انخفاض تكلفة قروض الصندوق، حيث يمكن توفير قروض سكنية عدة بقيمة تكلفة بناء مسكن واحد. والحقيقة أن هذا الأمر هو أيضا إحدى العقبات التي تقف حائلا دون نجاح الصندوق في معالجة مشكلة الإسكان؛ إذ إنه أصبح من المتفق عليه أن قيمة القرض لا تكفي لبناء جزء من المسكن المناسب، وهو ما أدى إلى رفع الأصوات المنادية بزيادة قيمة القرض، وهي الدعوة التي أقول دائما إنها لن تؤدي إلا إلى زيادة تعقيد المشكلة؛ كونها ستؤدي بشكل مباشر إلى تضخم أسعار الأراضي ومواد وخدمات البناء كأثر مباشر لهذه الزيادة، وهو ما سيلغي العائد الإيجابي المأمول من هذه الزيادة.
خلاصة القول، صندوق التنمية العقاري أدى دورا مهما في فترة من الفترات، ولكن هذا الدور أسس لواقع الأزمة التي نعيشها. ومعالجة هذه الأزمة تتطلب حلولا غير مألوفة، حلولا من خارج الصندوق كما يقال، حلولا تتبنى أساليب وآليات استخدمها قبلنا كثير من الأمم التي حققت نسبا عالية من تملك المساكن لمواطنيها. والجانب التمويلي الذي يقدمه صندوق التنمية العقاري لا يمكن أن يحقق بشكله الحالي معالجة فاعلة للأزمة، كما أنه لا يمكن أن يكون حلا منفردا لها؛ إذ إن الحل يجب أن يتبنى جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الجانب التمويلي، جوانب تؤسس لأن يكون الإسكان صناعة احترافية ممنهجة، وأن يكون المسكن منتجا معلبا جاهزا للاستخدام مثله مثل بقية المنتجات التي نستخدمها في كل أركان حياتنا اليومية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي