الثقافة الذكورية واليوم العالمي للمرأة
احتفل العالم في هذا الأسبوع باليوم العالمي للمرأة، ولا بد من الإشارة إلى أن هذا اليوم العالمي للاحتفاء بالمرأة والتأكيد على حقوقها هو اعتراف من العالم أجمع بأن المرأة في الغالب, وهذا الأمر ينطبق حتى في أكثر المجتمعات تقدما, لم تأخذ إلى الآن حقوقها بالكامل, ولكن هناك مجتمعات تؤمن بحقوق المرأة وتجتهد في إيجاد الأرضية القانونية والمناخ الثقافي والتربوي لضمان مثل هذه الحقوق, وفي المقابل هناك مجتمعات ما زالت تبدي ترددا وربما ممانعة في الاعتراف بحقوق المرأة وتستند في رفضها وممانعتها إلى ثقافة ذكورية صلبة وراسخة في أذهان الناس. والثقافة الذكورية هنا لا تعني أبدا أنها ثقافة تختص بالرجال فقط, فهي ثقافة المجتمع بأكمله ويشترك في تبنيها الرجال والنساء معا ولهذا نجد عند المجتمعات التي تطغى عندها الثقافة الذكورية أن هناك من النساء وهم كثر ممن يرفضن أصلا فكرة المطالبة بحقوقهن, بل أنهن يستنكرن على الرجال المطالبة بهذه الحقوق ويعلنون وبشكل واضح وصريح أنهن مع بقاء الوضع على حاله, فهن لا يستحققن من الحقوق أكثر مما يتفضل عليهن به معاشر الرجال.
فمشكلة حقوق المرأة في أي مجتمع هي مشكلة ثقافية في الدرجة الأولى, والثقافة لا تكون حية إلا عندما تكون ثقافة نقدية, ثقافة تمارس النقد أولا على ذاتها وعلى ما تحمله هي نفسها من رؤى وما تؤمن به من قيم وما تأخذ به من قناعات, وأن الأساس في عملية النقد هو عدم الانشغال بالمظهر ونسيان المصدر. فمن المهم جدا أن نتتبع هذه الرؤى وهذه القيم والقناعات التي أعطت الثقافة ذكوريتها إلى حيث مصدرها وبداياتها. ولا يمكن للمراة أن تستعيد حقوقها من غير أن تجفف المنابع والمصادر التي تغذي ثقافة المجتمع بهذه الصبغة الذكورية. فتخليص الثقافة من ذكوريتها أو على الأقل التخفيف منها هو ما يجب العمل عليه لأن ثقافة المجتمع إن تركت على ذكوريتها ولم يلتفت اليها ستكون لها الغلبة في النهاية حتى مع وجود قوانين وأنظمة تناصر المراة وحقوقها, لا بل إن الثقافة الذكورية إن بقيت وسمح لها بالبقاء كما هي عليه ستقوى وتكون قادرة ليس فقط على تعطيل القوانين والأنظمة التي تعطي المرأة حقوقها بل إن أثرها يمتد إلى عملية صياغة هذه القوانين حتى تأتي وهي محملة بالنفس الذكوري وعندها تجد المرأة نفسها مظلومة في حقوقها ولكن هذه المرة بغطاء قانوني وشرعي.
أما كيف تستمد الثقافة ذكوريتها, فإن الجواب على هذا السؤال يتطلب منا مناقشة أربعة مصادر من جملة مصادر متعددة ومتنوعة, وهذه المصادر قد تكون هي المسؤولة بشكل كبير وإن كانت بدرجات متفاوتة عن ذكورية ثقافة المجتمع وبالتالي معاناة المرأة في الحصول على حقوقها, هذه المصادر الأربعة وباختصار هي:
1- القراءة الدينية التي تنتقص من مكانة المرأة وإنسانيتها: لا أحد يستطيع أن ينكر أننا نجلس على ثقافة دينية وليس الدين مسؤولا عنها تحط من قيمة المرأة ليس فقط مقابل الرجل بل إنها في بعض الأحيان تعطيها أقل رتبة حتى من الحيوان, لأنها عندما تنظر إلى المرأة على أنها مخلوق فتنة وأنها كائن ألعوبة بيد الشيطان أو جند من جنوده فهي بالتالي مخلوق مخرب لحياة الإنسان الذي هو الرجل. وعندما يقال للرجل إنه عليك ألا تستشير المرأة بالمطلق وإذا اضطررت إلى ذلك فخالف رأيها لأن في مخالفتها بركة لك. وعندما يقال للمراة إنك قد خلقت من فاضل طينة الرجل أو من ضلعه الأعوج فإنك بالتالي تعتبرين مخلوقا ناقصا في أصل خلقه وأعوج في نشأته وطبيعته وبالتالي فإن سيادة الرجل على المرأة ليس من باب التعدي على حقوقها بقدر ما هو استجابة وتوافقا مع المرتبة والمكانة الإنسانية لكل منهما. هل يعقل أن يبادر المجتمع إلى إعطاء المرأة حقوقها وهو يقول للرجل إن المرأة تفقد الكثير من حقوقها الزوجية عندما لا يستطيع الرجل التمكن منها والاستمتاع بها. فالسؤال المهم إذا هو: كيف جاءت لنا هذه الثقافة الدينية التي تحط من إنسانية المرأة, فالمرأة لا تستطيع أن تستعيد حقوقها ومواطنتها بالكامل قبل أن تسترد إنسانيتها. فعندما نفهم وبشكل خاطئ قصة خلق الإنسان الأول, فآدم وهو المخلوق الأول ليس بذكر وليس هو بالأنثى وإنما هو الزوج الإنساني الأول لأن الله قد ذكر في كتابه الكريم أنه قد خلق من كل شيء زوج وليس الإنسان مستثنى من هذه القاعدة الإلهية, "ومن كل شيء خلقنا زوجين" الآية رقم (49) سورة الذاريات. فلم يخلق الذكر قبل الأنثى ولم تخلق الأنثى من فاضل طينة الرجل أو من ضلعه الأعوج, بل إن الذكر والأنثى خلقا معا وأعطيا معا أمانة الخلافة الآلهية على هذه الأرض. فعندما نثبت إنسانية المرأة ونجعل لها نفس المرتبة الإنسانية التي هي للرجل سيكون عندنا إذا أرضية دينية قوية وصلبة لبناء ثقافة دينية ليس فيها انحياز ذكوري وليس فيها مبررات تكتسي اللباس الديني وتعطي لها القداسة وتصنف على أنها من الثوابت الدينية للتقليل من مكانة المرأة حقوقيا وإنسانيا. فنقد هذه الثقافة الدينية وبتعزيز البعد الإنساني في النظرة إلى المرأة ترتقي ليس فقط نظرة الرجل إلى المرأة وإنما ترتقي أيضا نظرة المرأة إلى نفسها وهذا التصحيح في نظرتها لذاتها يعزز من دور المرأة نفسها في العمل والاجتهاد لاكتساب حقوقها.
2- العادات والتقاليد الاجتماعية: علينا ألا نستهين بدور العادات والتقاليد الاجتماعية في تعزيز وحماية الثقافة الذكورية في المجتمع. فالمجتمع المنغلق على نفسه إما بدواعي الخوف على هويته أو ثقافته أو خصوصيته يحتمي بقوة بالعادات والتقاليد الاجتماعية في تبرير عدم تواصله مع الآخرين, وهذا ما يقويها ويجعلها مستحكمة أكثر. فبعض المجتمعات تنظر إلى التقاليد والأعراف الاجتماعية التي تحط من قيمة المرأة على أنها جزء من ثقافتها وشخصيتها الاجتماعية التي تعطيها الخصوصية في مقابل المجتمعات الأخرى وهنا تكمن المشكلة. فتسليط الضوء على العادات والتقاليد التي تمجد الذكر وتحط من قيمة المرأة الأنثى وزيادة وعي المجتمع بها حتى يعرف أنها ما هي إلا مجرد عادات أنتجتها ظروف معينة وتكفلت بها ثقافات مرحلية ربما قد تم تجاوزها والزمن يساعد كثيرا على التخلص منها وتنقية الثقافة من ذكوريتها.
3- البعد التاريخي: هناك من يحمل التاريخ والذي هو مثقل بالحضور الذكوري, مسؤولية كبيرة في تعزيز الجانب الذكوري في الثقافة. فالمجتمع الذي يقدس الماضي، الذي يرى أن المحافظة على الماضي وتقديسه هو ما يجب أن يعمل عليه المجتمع وأن يكون شغله الشاغل, هذا المجتمع هو بكل تأكيد يكون مجتمعا أكثر قبولا وترحيبا من غيره بالثقافة الذكورية. فتصحيح علاقة المجتمع بالماضي يساعد كثيرا على نقد ومراجعة الكثير من الموروث الثقافي ومنها ما يخص الجانب الذكوري.
4- البعد العلمي: عندما يضعف الإطار العلمي للثقافة فإن الكثير من الرؤى والقناعات الثقافية تبنى على الأوهام والخرافات وليس على الحقائق. فهناك اعتقاد بأن المرأة أقل ذكاء من الرجل وهذا بالتالي يحط من قيمتها ويحرمها من الكثير من حقوقها, ولكن: هل هناك أساس علمي لهذا الاعتقاد؟ هذا ما أثبت العلم خلافه. حتى الاتهام بأن عاطفية المرأة تجعلها أكثر ضعفا من الرجل أصبح مردود عليه علميا بعد أن أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن الإنسان بحاجة إلى الذكاء العاطفي في حياته أكثر مما هو بحاجة إلى الذكاء العقلي. فضعف المرأة جسديا ونفسيا من منطوق علمي يختلف عن مفهوم الاختلاف في دورها في الحياة مقارنة بالرجل.
أخيرا, صحيح أن المجتمعات في العالم عندما تحتفل بهذا اليوم العالمي للمرأة فهي تريد أن تذكر العالم وتحثه وبالأخص المرأة على المطالبة بحقوقها كإنسانة كاملة الإنسانية, ولكن علينا أيضا أن نستثمر هذه المناسبة العالمية لتسليط الضوء على أن ما نحتاج إليه فعلا وبداية هو مساعدة المجتمع على تخليص نفسه من الثقافة الذكورية.فكلما استطاع المجتمع أن يخلص ثقافته من هذا الانحياز الذكوري وأن يعيد لها إنسانيتها ستكون هناك خطوات أكبر وأكثر رسوخا في تعزيز حقوق المرأة.