صندوق المئوية بين النظرية والتطبيق

يبدو أن السادة القراء قد ملوا من كثرة حديثي عن قضية الإسكان، إذ تكرر حديثي عنها بشكل متواتر في الآونة الأخيرة. ومع أن هذه القضية تستحق أن نتحدث عنها كل يوم وكل ساعة، ومع أن تناولي لها كان دوما يسلط الضوء على جانب مختلف من جوانب القضية، إلا أنني رأيت هذه المرة أن أعرض لقضية أخرى من قضايا التنمية. وإذ بدأت في المقالين الأخيرين التعليق على القرارات التي صدرت تزامنا مع عودة المليك لأرض الوطن، فربما يكون من الملائم أن أتناول بالحديث مجموعة أخرى من تلك القرارات، وهو ما سأبدأ به بهذا المقال سلسلة من الطروحات حول القطاعات التي مستها تلك القرارات.
أحد تلك القرارات كان القرار المتعلق بدعم رأسمال بنك التسليف والادخار بمبلغ 30 مليار ريال، وتوجيه البنك على وجه الخصوص بتقديم التمويل اللازم لقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. والحقيقة أن هذا القرار يمكن أن يكون أكبر القرارات أثرا في منظومة التنمية الاقتصادية، بالنظر إلى أن قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يمثل العمود الفقري لأي اقتصاد ناجح. كما أن هذا القطاع عانى خلال الفترة الماضية قصور التمويل والدعم من مجمل مصادر التمويل الحكومية والخاصة، وهو ما تناولته بالحديث في مقالات سابقة، وتناوله غيري كثيرون من كتاب الرأي، خاصة فيما يتعلق بانحسار دور البنوك التجارية في دعم هذا القطاع الحيوي المهم. ويأتي بذلك هذا القرار ليسهم في سد ثغرة كبيرة في هذا الجانب، ويؤسس لآلية ممنهجة تتبنى دوره في منظومة الاقتصاد الوطني. وبنك التسليف والادخار كان قد رفع منذ زمن راية المبادرة في هذا المجال، وأعلن تبنيه برنامجا يمنح من خلاله قروضا موجهة لقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إلا أن هذا التوجه لم يجد التفعيل المطلوب، ربما في ظل تركيز البنك على جانب القروض الاجتماعية التي استنزفت واستهلكت موارده، خاصة إبان الأزمة المالية العالمية التي أطاحت بمدخرات المواطنين، وزادت من اتساع شريحة المحتاجين لهذا النوع من الدعم التمويلي. وفي الحقيقة، فإن هذا القطاع يتطلب توجيه التركيز عليه ليس فقط من قبل بنك التسليف والادخار، إذ إنه لن يستطيع بمفرده سد النقص الهائل في هذا الجانب، بل لا بد من قيام بقية المؤسسات التمويلية بلعب دور فاعل في دعم هذا القطاع، خاصة أن الدولة عبرت بوضوح عبر هذا القرار عن إيمان مطلق بأهمية هذا القطاع ودوره في الاقتصاد الوطني. وإذ سبق لي الحديث عن دور البنوك التجارية في هذا الجانب في مقال سبق نشره هنا قبل أسابيع ثلاثة، فسأتناول اليوم بالحديث مؤسسة أخرى من المؤسسات التمويلية التي رفعت راية الدعم الموجه والمخصص لقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ألا وهو صندوق المئوية.
المعلوم أن صندوق المئوية تم تأسيسه في عام 1419هـ تزامنا مع احتفالات مئوية المملكة. والمعلوم أيضا أن هذا الصندوق يعمل على دعم قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عبر تقديم قروض التمويل للشباب السعودي لتأسيس كياناتهم الخاصة، وتوفير الدعم المعرفي والإرشاد والتوجيه والتدريب لهؤلاء الشباب لدعم قدراتهم الإدارية والفنية لإدارة كياناتهم وتحقيق النجاح المأمول لها. والحقيقة أن الصندوق بالرغم من مرور نحو 13 عاما منذ تأسيسه، إلا أنه لم يحقق النجاح المأمول ـــ بحسب ما أعلن عنه من خطط وبرامج. كنت قد حضرت عددا من المحافل التي تحدث فيها عدد من مسؤولي الصندوق حول خططه وبرامجه لدعم تأسيس الكيانات الصغيرة والمتوسطة، وخلق فرص العمل للشباب السعودي الطموح. وكنت دوما أسجل إعجابي بتلك الخطط، وأتطلع إلى أن تجد طريقها إلى واقع التنفيذ والتفعيل، مؤمنا بأن نموذج عمل الصندوق يمكن أن يشكل حافزا حقيقيا لدعم قطاع الكيانات الصغيرة والمتوسطة، والإسهام بفاعلية في حل مشكلات البطالة التي أرقت المسؤولين، وأضحت هما ثقيلا على كواهل الجميع. الآن وبعد مرور هذه الفترة منذ تأسيس الصندوق، أجد أن تفاؤلي كان في غير محله، فلم أجد الأثر الذي كنت أتطلع إليه، ولم أر وعود القائمين على الصندوق تتحقق على أرض الواقع. كل ما نسمعه من الصندوق بين الفينة والفينة حديث عن أرقام وأرقام وأرقام تتحدث عن عدد الفرص التي خلقها، وعدد الكيانات التي أسهم في تأسيسها. هذه الأرقام تشبه إلى حد كبير الأرقام التي نسمعها من الهيئة العامة للاستثمار عن حجم الاستثمارات الأجنبية التي جذبتها للمملكة، دون أن نرى لها أثرا على أرض الواقع. وكما أن أرقام هيئة الاستثمار تتحدث دوما عن كم الاستثمارات التي جذبتها دون تبيان أي معلومات دقيقة عن نوعيات هذه الاستثمارات ومجالاتها، وعن مصيرها ومدى نجاحها على أرض الواقع، وعن دورها في خلق الفرص الوظيفية للشباب السعودي، نجد أن أرقام صندوق المئوية تتحدث فقط عن عدد الكيانات التي أسهم في تأسيسها، وعن عدد الوظائف التي خلقها، ومقدار التمويل الذي منحه الصندوق، دون أي حديث عن مدى النجاح الذي تحقق لهذه الكيانات، وما إذا كانت هذه الوظائف التي خلقها اكتسبت صفة الاستمرارية والثبات، أم أنها تعرضت لعواصف من الفشل والإغلاق، كنتيجة طبيعية لقصور الدعم المعرفي والإداري والمهاري الذي يشتكي منه كثيرون ممن حصلوا على دعم الصندوق. إن الهدف من والصندوق ليس فقط تمويل تأسيس الكيانات للخروج بأرقام يتم تداولها في أروقة الإعلام كدليل على النجاح، بل إن الهدف الحقيقي هو إنتاج كيانات اقتصادية ناجحة تسهم في دعم الاقتصاد الوطني، وخلق فرص وظيفية دائمة للشباب السعودي.
إن حجم التطلعات والطموحات التي علقها الجميع على صندوق المئوية تتجاوز بمراحل حجم إنجازات الصندوق، خاصة أن هذا الصندوق يرتبط بحدث وطني مهم، ويعكس اهتماما كبيرا من الدولة بدعم قطاع الكيانات الصغيرة والمتوسطة. حديثي هذا لا يأتي من فراغ، وليس مبنيا على تخمينات جزافية، بل إنه ينطلق من حالات كثيرة لشباب وشابات سعوديين وسعوديات، منهم من تمكن من الحصول على دعم الصندوق لتأسيس كياناتهم دون أن يقوم الصندوق بدوره المطلوب في الإرشاد والتوجيه واحتضان هذه الكيانات لتجد طريق النجاح، ومنهم من صدموا برفض الصندوق تقديم الدعم، مع أن كثيرا منهم يملك أفكارا واعدة لأنشطة وخدمات يمكن أن تحقق إضافات جيدة لمنظومة الاقتصاد الوطني، ومنهم من أصبح الصندوق وراءهم مجرد جهة تحصيل تطالبهم بسداد قيمة القروض دون أن تسعى لتحري أسباب تعثر أنشطتهم ومعالجتها، انطلاقا من أن الهدف الرئيس للصندوق هو إنجاح الكيانات التي يسهم في تأسيسها، وليس فقط توفير التمويل ومن ثم استرداده بذات المفهوم القاسي المتعسف الممارس من قبل البنوك التجارية.
أحد المسؤولين في الصندوق قال لي قبل فترة إن الصندوق يعاني شحا كبيرا في موارده، وهو ما وضعه في موقف التقصير في قبول الطلبات التي يتقدم بها الشباب لدعم تأسيس كياناتهم. الغريب، أن الصندوق وهو يرتبط ارتباطا إداريا بالهيئة العامة للاستثمار، حيث إن محافظ الهيئة هو في الوقت ذاته رئيس مجلس إدارة الصندوق، إلا أن الصندوق لم يتمكن بعد من توظيف هذا الارتباط لزيادة فاعلية أدائه دوره المأمول، إذ إن الصندوق كان يمكن له عبر هذا الارتباط أن يؤسس قنوات متعددة للحصول على الموارد المالية اللازمة لتمكينه من أداء دوره بفاعلية. فمثلا، حجم الاستثمارات الهائل الذي تتحدث عنه الهيئة كان يمكن أن يتم استقطاع نسبة محدودة منه لدعم موارد الصندوق، وتلك الكيانات التي جاءت إلى المملكة باستثماراتها كان يمكن أن يتم إلزامها بالتعاون مع الصندوق لتوجيه الشباب لخلق كيانات صغيرة ومتوسطة ترتبط بتلك الكيانات الكبيرة لتوفر لها ما تحتاج إليه من خدمات وصناعات داعمة.
خلاصة القول، صندوق المئوية يؤمل منه الكثير، وهو يرتبط بقطاع هو العمود الفقري لأي اقتصاد، وهو قطاع الكيانات الصغيرة والمتوسطة. وما نتطلع إليه من تصحيح في أداء الصندوق يمثل تطلعا مشروعا يدعم تطلعات الشباب. وواقع الحال يتطلب مراجعة حقيقية لحالة الصندوق وآلية عمله، والبعد ولو قليلا عن لعبة الأرقام والتلميع الإعلامي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي