وُلد ليبيع!
احتجت إلى شراء جهاز إلكتروني فقادتني سيارتي إلى أحد مراكز التسوق الكبيرة .. اتجهت إلى اللوحة التي رسمت فيها خريطة السوق وأسماء المحال .. رأيت أسماء لعلامات (ماركات) ومحال بينها وبين قلبي ود وارتياح .. بدأت بما سهمها أغلى من ناحية الثقة والجودة .. دخلت المحل .. عطفت على المكان الذي يوجد فيه الجهاز الذي أريد .. انتظرت المندوب يأتيني .. رغبت في معرفة المواصفات ومزايا المنتج .. بعد انتظار طويل جاءني البائع بتثاقل وبنفس بائسة وبمعرفة محدودة عن المنتج وبكسل جسدي ونفسي قتل فيّ كل تطلع إلى الحصول على المنتج من محله .. خرجت إلى محل آخر بالقرب منه .. وهناك وجدت فعلا بائعا أعاد إليّ الإيمان بدور رجل البيع وقدم لي كل المعلومات التي أحتاج إليها واستطاع إقناعي بأن المنتج سيقدم لي كل الحلول التي أتطلع إليها منه .. بالتأكيد خرجت منه وأنا أحمل هذا الجهاز وكلي سرور به وأنتظر لحظة وصولي إلى البيت حتى أقضي معه سهرة أول لقاء بيننا.
الحقيقة أننا نمارس جميعاً وظيفة البيع في كل مناحي حياتنا، فكلنا بائعون لشيء ما وليس شرطاً بالضرورة أن يكون المال هو المقابل ـــ في هذا المقال أبيع لك عزيزي القارئ رؤيتي وأفكاري وتتحمل أنت في مقابلها تكلفة الوقت والجهد المبذولين في القراءة ـــ وأنت بالتأكيد تمارس تلك الوظيفة حتى في تعاملك مع زوجتك وأولادك. وفي عالم الأعمال تتحدد قدرة الشركات والمؤسسات على المنافسة والتميز بحنكة ومهارة مسؤولي البيع فيها "لهذا تحتل وظيفة البيع مكانة متميزة، والعاملون في هذا المجال هم الأعلى دخلاً مقارنة بالوظائف الأخرى". وعلى الرغم من أن الشركات والمؤسسات تستثمر كثيراً الآن في صناعة البائع المحترف من خلال التدريب والتحفيز وتوفير الإمكانات التي تمكنه من تحقيق الأهداف البيعية، الا أن هناك فئة خاصة جداً من البائعين الذين يتمتعون بموهبة البيع، هؤلاء بائعون بالفطرة، يسري في دم الواحد منهم عشق البيع؛ يعيش أحلى لحظاته وهو يقدم للآخر شيئاً ما ذا قيمة ـــ أو حتى من دون قيمة ـــ ويشعر كأنه مفاوض عظيم أو دبلوماسي محنك وهو يبحث في جنبات عقل من يخاطبه ليجد ثغرة ما أو طريقاً مفتوحاً لإتمام الصفقة. هذا البائع لا يشعر باليأس على الإطلاق، بل يجد متعة في التعامل مع الصعوبات وتفكيكها الواحدة تلو الأخرى. هو أيضاً يجيد لعبة الكلمات والجمل الموجهة، وفي لحظات يستطيع أن يقلب الموازين والحسابات ويجبر الطرف الآخر على العودة مجدداً إلى مائدة المفاوضات. هذا البائع أيضاً يمتلك القدرة على فهم الآخر وتحديد دوافعه المادية والمعنوية، هو اجتماعي بكل تأكيد ولا يجد نفسه إلا وسط الناس. هذا البائع ربما خضع لتركيبة وراثية جعلته يبيع بالفطرة، وارد أن تكون عائلته قد ورثت العمل بالتجارة أباً عن جد، ووارد أن والده تزوج والدته في إطار صفقة ما ـــ ليست بالضرورة أن تكون مشبوهة أو غير أخلاقية ـــ في كل الأحوال هناك دور للعوامل الوراثية شأن الدور الذي تمارسه تلك العوامل في عديد من المهن. ومنذ نعومة أظفاره تشكلت سمات البائع في شخصه، أحب لغة الأرقام، خضع في كثير من الأحيان لمساومات ومقايضات من والديه، أعطاه والداه الفرصة للتحدث والتعبير عن ذاته ولم يحرماه من شهوة الشعور بالانتصار والنجاح في إقناع الآخر. بالفعل هناك فارق بين من يتعلم أو يتدرب على أداء مهنة ما وبين من يملك الاستعداد الذاتي لأدائها والتميز فيها، هذا الفارق هو الذي يصنع كبار القادة وكبار الوزراء وكبار الأطباء وكبار الكتاب وكبار البائعين. المشكلة عندما لا يدرك الإنسان أن لديه استعداداً ما لوظيفة ما، أو أن تقف البيئة المحيطة به والمناخ الذي يعيش في ظله حائلاً دون استثمار هذا الاستعداد وتطويره، المشكلة الأكبر عندما يتجه الإنسان إلى مهنة ما لا تتناسب وتكوينه النفسي والذهني، المأساة عندما يستمر في هذه المهنة.