وأنت أيضا في قلوبنا يا خادم الحرمين
هذا ليس فقط عنوانا لمقال, لكنه عنوان لقناعة شعب بأكمله. والتعبير عن هذه القناعة لم يكن فقط بالقول, بل بالفعل, الذي تمثل في تجاهل التحركات والدعوات المغرضة التي شابت الأجواء في بلادنا خلال الفترة الماضية. هذا التجاهل الذي أبرز بجلاء مقدار الولاء الشعبي للقيادة, والإيمان المطلق بحرص الدولة على تحقيق الرفاه للمواطنين. وكلمة الملك لشعبه يوم جمعة الوفاء جاءت بردا وسلاما على قلوب المواطنين, وأكدت هذا التلاحم النادر بين القيادة والشعب, تلاحم ينطلق من حب متبادل ومصير مشترك, وليس مدفوعا بأية مصالح أو تطلعات تخرج عن إطار المواطنة ومتطلباتها واستحقاقاتها. ومنظومة القرارات التي صاحبت كلمة الملك, التي انضمت إلى مجموعة القرارات التي تزامنت مع عودته سالما معافى إلى أرض الوطن, كل هذه القرارات جاءت لتلمس جوانب عديدة من هموم المواطنين, وتعبر عن إحساس القيادة بمشكلات الشعب, وتسجل حرصا على معالجة هذه المشكلات. لكن, ومن منطلق الحرص على أن تحدث هذه القرارات الآثار المأمولة منها, فسأعرض هنا مجموعة من الرؤى المرتبطة بهذه القرارات, عسى أن تجد هذه الرؤى شيئا من القراءة الجادة لتحقيق المصلحة العامة.
تضمنت القرارات مجموعة من الإجراءات التي يمكن تصنيفها بشكل قطاعي إلى خمس مجموعات, الأولى تشمل إجراءات في شكل مكافآت ومنح مالية للمواطنين, والثانية تشمل إجراءات تتعلق بقطاع الإسكان, والثالثة تشمل إجراءات تتعلق بقطاع العمل ومشكلة البطالة, والرابعة تشمل إجراءات تتعلق بقطاع المؤسسات الدينية, والخامسة تشمل إجراءات تتعلق بمحاربة الفساد, إلى جانب عدد آخر من القرارات المتفرقة. والمجموعة الأولى من القرارات تندرج في إطار التيسير على المواطنين وتحسين أوضاعهم المعيشية, وهي قرارات لامست حاجة الناس, لكن المشكلة أنها وجهت للموظفين في القطاع الحكومي. ومع أن عددا من كيانات القطاع الخاص تفاعلت بشكل إيجابي مع هذا القرار, واحتذت حذوه في التيسير على منسوبيها, إلا أن عددا آخر منها لا يستطيع فعل ذلك ولو أراد, علاوة على العدد الآخر من المواطنين الذي هم من أصحاب الأعمال الصغيرة ولا تشملهم هذه المبادرة. كما أن الموظفين في الدرجات الأدنى هم في الحقيقة أكثر حاجة إلى مثل هذا العون مقارنة بالموظفين في الدرجات العليا الذين ليسو في حاجة فعلية إليها. ربما كان الأفضل أن يتم تعميم هذه المبادرة لتشمل كل المواطنين على حد سواء, وأن يتم منحها لكل رب أسرة أو عائل بموجب رقم الهوية الوطنية, وبحيث يتم ربطها بعدد أفراد الأسرة الذين يعولهم. الأهم من ذلك أن تترافق هذه المبادرة مع مسعى حقيقي لمنع أي تضخم في تكاليف الحياة يمكن أن ينشأ عنها, وربما يكون قرار إحداث 500 وظيفة في وزارة التجارة والصناعة لدعم جهودها الرقابية عاملا مساعدا في هذا الجانب, إلا أنه يتطلب تفعيلا سريعا لتحقيق المعالجة المطلوبة بشكل فوري بدلا من أن تأتي متأخرة عنها. ومن جهة أخرى, فإن زيادة دخل منسوبي القطاع العسكري يمثل استجابة مباشرة لما يقوم بها القطاع من دور حيوي في الحفاظ على الأمن, إلا أن هذه المبادرة تتطلب أيضا النظر في أوضاع بعض الفئات من منسوبي القطاع الحكومي, ومنهم على سبيل المثال المهندسون, الذين طال انتظارهم لكادر خاص يحقق تطلعاتهم المشروعة بالنظر إلى حجم المسؤوليات الملقاة على عواتقهم في منظومة التنمية.
المجموعة الثانية من القرارات, وهي التي تتعلق بقطاع الإسكان, ينجر عليها الحديث ذاته الذي سبق أن طرحته عقب القرارات السابقة التي تضمنت دعم ميزانية الهيئة العامة للإسكان وصندوق التنمية العقارية. إن بناء 500 ألف وحدة سكنية التزام ضخم, ليس بمتطلباته المالية, فالدولة ـــ بحمد الله ـــ أنعم الله عليها بموارد مالية ستمكنها من تغطية هذا الجانب. لكن المشكلة تكمن في الآليات التي يمكن أن يتحقق بها هذا القرار, فالهيئة العامة للإسكان لا يمكن لها أن تقوم منفردة بهذا الدور, بل إنها يجب أن تبتعد تماما عن البناء المباشر للوحدات السكنية, وتسعى إلى تأسيس شراكات ممنهجة مع القطاع الخاص لتحقيق هذا الحلم. ومن جهة أخرى, فإن تحقيق هذه الخطة تتطلب معالجة فاعلة لمشكلة توافر الأراضي وارتفاع أسعارها, بما في ذلك على سبيل المثال التعجيل بفرض الرسوم على الأراضي البيضاء, ومعالجة مشكلة توفير الأراضي البلدية المجهزة بالخدمات, وتوظيف موارد صندوق التنمية العقارية بشكل أكثر فاعلية لتوسيع دورة التمويل العقاري. أما المجموعة الثالثة من القرارات, التي تناولت قضية العمل والبطالة, فهي تمثل ـــ في رأيي ـــ قفزة مهمة في التعاطي مع هذه القضية الحيوية, وذلك عبر تحديد حد أدنى للأجور في القطاع الحكومي, وهو ما يتطلب توسيع تطبيقه ليشمل القطاع الخاص أيضا, ويشمل كذلك كل العاملين في القطاعين من سعوديين ووافدين, حتى يتحقق عامل التنافسية الذي سيدفع باتجاه رفع تكلفة توظيف الوافدين, وهو ما يمكن أن يسهم في تحقيق تطلعات الدولة في سعودة الوظائف. كما أن هذا الأمر يتطلب أيضا مراجعة جادة للتشريعات والأنظمة ذات العلاقة, ومنها نظام المشتريات الحكومية, الذي ما زال يفرض عامل المنافسة السعرية أساسا لترسية العقود, وهو ما يدفع المقاولين إلى البحث عن أرخص العمالة وتوظيفهم للتمكن من المنافسة على مشروعات التنمية.
المجموعة الرابعة من القرارات والتي تناولت عددا من المؤسسات الدينية تعكس بوضوح اهتمام الدولة بهذا القطاع, في تأكيد معلن لتبني المكون الديني في الدولة السعودية, وهو المكون الذي خص الله به هذا البلد دون سواه. كل ما أرجوه أن تدعم هذه المجموعة من القرارات تحقيق رؤية الدولة في الوسطية والاعتدال, وأن تسهم في تحقيق التقارب المأمول بين هذه المؤسسات وعامة الشعب. أما المجموعة الخامسة من القرارات, والمتعلقة بمكافحة الفساد, فهي بحق أهم هذه القرارات, ولربما كانت كل القرارات من دونها فارغة المحتوى والمضمون. فالفساد آفة الآفات, ومن دون مكافحته لن يمكن حل أي من مشكلات التنمية, ولن تجد كل القرارات فرصة للتحقيق الفاعل. كل ما أرجوه أن تكون هيئة مكافحة الفساد نموذجا للنزاهة, وألا تغرق هي ذاتها في ممارسات بيروقراطية عقيمة تعوق قدرتها على أداء دورها المأمول. ولربما كان ربط هذه الهيئة بشكل مباشر بإشراف مباشر من الملك أهم مؤشر على مقدار الاهتمام الرسمي بهذه الهيئة الوليدة.
خلاصة القول, ملك القلوب استطاع فعلا أن يملك القلوب, ونحن لا نملك إلا أن نمد له يد الشكر والعرفان, ونبادله حبا بحب. وكل هذه القرارات تتطلب كما قلت سابقا التعاطي الجاد من أجهزة الدولة لتفعيل آثارها على الوطن والمواطنين, وتتطلب كذلك سعيا فاعلا لعمل مؤسسي ممنهج يؤسس لتنمية وطنية مستدامة وليس معالجة وقتية لا تخلو من تخدير.