كلمة ملك
إذا كانت سير العظماء على مر العصور قد احتلت واجهة الاهتمام الإعلامي، ونهم الباحثين عن الشهرة والجاه والمال، وإذا كانت أحاديث القادة إلى شعوبهم تمثل فواصل خاصة في مجتمعاتهم، فإن سيرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، سوف تقف بالتاريخ عند محطات كثيرة، وتسير به في عناوين أكثر، تمامًا، كطلّته– يحفظه الله- بالأمس القريب على شعبه، بوجهه الأبوي، ونبرته الحانية الصارمة في آن، والتي شكلت فاصلاً، بل فيصلاً بين عهدين وعهدتين؛ عهدي اليوم والغد، وعهدتي الحاكم والمحكوم.
جاءت كلمة الملك عبد الله ضافية وافية، لخّص فيها شؤونًا كثيرة، بكلمات قليلة، ووضح من خلالها أن رؤية القيادة السعودية متكاملة الزوايا، متناظرة الاهتمامات، حيث أتت على الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، بخلفية سياسية شاملة الشكل والمضمون.
ويخطئ كثيرًا من يحصر كلمة القائد في صرف مكافأة، أو زيادة راتب، أو حجر أساس في بيت لمواطن، أو حتى في تحصين المملكة أمام رياح ينفخ فيها أهل الكير، أو من يتاجرون بسلعة الضمير. صحيح أن ما جاءت به كلمة الملك عبد الله يخفف العبء المادي عن المواطن، ويرفع من مستوى تحصيناته في وجه الغلاء المستشري، ويُعلي منسوب الأمل عند شباب الوطن في بيت يكون غدًا عشًّا هادئًا لأسرة مولودة.. كل هذا صحيح وواقع في وجه الكلمة، إلا أن ما وقر في قلبها أعلى قيمة، وأخطر أثرًا.
ففي الوقت الذي تذرو فيه رياح التغيير السياسي بعض الأنظمة السياسية العربية، التي ركنت إلى غفلة شعوبها، فتعدّت في سياساتها تلك الشعوب ممارسة صريحة، وخذلت أحلامهم في أكثر من موقع خذلانا لا ريب فيه، وفي الوقت الذي تمتد فيه بعض الأيدي السوداء في جنح الظلام محاولة زرع بذور العبث والتخريب في المجتمعات المستقرة، تأتي كلمة خادم الحرمين الشريفين قاطعة ساطعة: هذا الوطن عصي على الفتنة، بعيد عن أطماع الطامعين، وسيبقى السد الذي تشقى خلفه كل أوهام الواهمين، والصخرة التي تنكسر عليها جميع رؤوس المعتدين.
وليس بعيدًا أيضًا أن هذه الكلمة الصادقة الواثقة، إنما تبعث برسائل عدة، إلى جهات عدة، عرفت تمامًا أنها معنونة إليها، وقرأتها جيدًا، ووعت مضمونها بذهول كبير.
فهذه مملكة راسخة الأسس، متينة الأركان، سامية الهدف، سماوية الرسالة، لا ينبغي أن يتوهم واهم أنه يستطيع إنفاذ مأربه من خلل ما يتمنى وجوده، أو نفث سمه في جسد ما يعمل على إيجاده. وهذا ملك ما رغب في المُلك إلا طمعًا في خدمة مالك الملك، وما خطا في عناوين الحياة إلا ليرعى فيها آمال شعبه، ويسقي غراسها، ويصقلها لغدٍ آت لا يرحم الضعاف، ولا يتسامح مع الخفاف.
بالأمس القريب كانت لخادم الحرمين كلمة وجهها لأكثر من جهة في دقائق معدودة، يلزم تلك الجهات لقراءتها جيدًا أياما، وربما أسابيع وشهورا وسنوات، لتفهم المكشوف الصريح بصراحة وافية، والمشفّر المحذّر بمسؤولية كافية، والمخفي المقدّر بحكمة زائدة.. من تلك الكلمة طارت رسائل عديدة، ستعكف على تحليلها عواصم عدة. وحده الشعب السعودي الذي لم يحتج إلا للدقائق التي استمع فيها لمليكه، فوعى جيدًا المفردات الثرية، وانحنى احترامًا لقامة ملك بملامح وسمات أبوية، ومضى إلى شوارع المملكة، كل المملكة، فأطلق العنان لشموخ عربي مجيد، ولانتماء سعودي فريد، وكانت رسالة هذا الشعب الأبي لكل الدنيا أن: هنا.. في المملكة العربية السعودية قيادة تاريخية تقرأ الأحداث فوق السطور، وما بينها، بامتياز، وتكتبها بحكمة ورؤية تدعو إلى الاعتزاز،وتناجي ضمائر وأرواح شعبها بشفافية غدت منذ الآن دروسًا في كتاب العالم كله، بعدما جرد نخيل الوطن كل سعفه ليسطر في صفحة الأفق قصيدةَ العشق السعودي الخالد.