هل يستطيع العالم الاستغناء عن الدولار ؟
كان 1948 عام الهيمنة المطلقة للدولار، واستمر بالتعاظم حتى باتت دول تخطب ود أمريكا بربط عملاتها به ودول أخرى كانت تبرم الاتفاقات بسلّات محددة لتقيم بطريقٍ غير مباشر بالدولار كذلك، وكان الخاسر من الدول من رفضه الدولار وعاشت عملته بمعزلٍ عنه وهي مجموعة من الدول والاتحادات الاشتراكية. نحن لا نتحدث هنا عن قوة العملة وضعفها، إنما نتحدث عن الاستقرار أمام الدولار.لقد زادت قوة الدولار في 1971 عندما فك الرئيس الامريكي نيكسون ارتباط الدولار بالذهب. منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا والدولار متربع على عرش الهيمنة المالية ولا يصل شيء من العملات لما وصل إليه الدولار من إنابته عن الذهب، وحدث ذلك لأسباب عدة، سنذكر أبرزها، مع ذكر ما هو حادث بشأنه الآن وتحديداً (بريكس، الصين، روسيا، العملات الالكترونية) وهل سيكون ما يحدث مؤثرا في قوة الدولار أم لا:
أولا : قوة الدولة المصدرة للدولار، فلا يوجد إنسان لايقر بالقوة المالية الأمريكية المنفردة والمؤثرة عالميا في أسواق المال حتى في أوج قوة الاتحاد السوفييتي، لكن ما حدث في تسعينيات القرن الماضي من بداية بزوغ الاقتصاد الصيني الحديث وتطوره إلى ما نشاهده اليوم من صراع قد يصل للتكافؤ اقتصادياً بين البلدين، وقد يغلب بعض المحللين طرفاً على الآخر، ما يجعل بعضهم يرى حتمية تؤثر الدولار وذلك للارتباط الوثيق بين الدولار والاقتصاد الأمريكي والعالمي، فالمال والاقتصاد جناحان لطائر.
ثانيا : الربط العالمي، فالدولار كان إحدى ركائز القرية الواحدة، التي مكنت الشركات الأمريكية من أن تكون عابرة القارات أكثر من غيرها، فالنظام العالمي (SWIFT) وإن كان مقره في بلجيكا وتشارك فيه 11.507 مؤسسة مالية من 209 دول، إلا أنه من المعلوم أن المحرك الرئيسي له هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحتل مؤسساته المالية أعلى نصيب مشاركة فيه.
هذا النظام يعد العصب الرئيسي لحياة الدولار، وقد سعت روسيا منذ الحصار الاقتصادي عليها بسبب حرب أوكرانيا إلى تقوية نظام المراسلات لديها ( SPSF) وهي محاولة جريئة، إلا أن نتائج هذه المحاولة كانت انضمام 177 مؤسسة من 24 دولة فقط، وهو رقم لا يمكن ان نتحدث عن منافسته. وحتى تاريخه لم تتحرك بريكس بشكل عملي لإنشاء نظام بديل لسويفت، وأما المحرك الرئيسي لبريكس أعني الصين فإن نظامها البديل (CHIPS) فهو وإن كان عدد المتعاملين به 148 دولة، إلا أنه بالتفحص فإننا نجد أن عدد المؤسسات المالية التي تتعامل بشكل مباشر لا تتجاوز 80 والتي تتعامل بشكل غير مباشر فقط 1357، كما أن عدد الإرساليات لا يصل إلى 20% من إرساليات سويفت، وهنا يتضح حجم الهوة بين النظامين الصيني،والروسي وهيمنة سويفت عليهما.
إلا أن ما يقلق أمريكا أن الصين عندما تقفز فإنها تصل في قفزاتها السرية وغير المعلنة إلى آفاق لا يمكن تصورها، فقد تفاجئنا الصين بنظام فريد للمراسلات يعتمد على تقنيات تجذب الدول والمؤسسات المالية له، فلو تفحصنا النجاح الصيني المبهر في تيك توك وكيف استطاع أن يتفوق على مثيلاته الأمريكية ذات العراقة التاريخية في غضون سنتين فقط من الإنشاء فينبغي أن نتفهم هذا التخوف، فالصين طالما أنها بدأت بالاهتمام بهذا الجانب فلا يمكن تنبؤ الحدود التي قد يصل إليها المشرع الصيني ونظرته المالية البحته، وتبرهن السنوات الأخيرة تنازل المشرع الصيني كثيراً عن مبادئ الشيوعية المالية والاقتصادية.
ثالثا : الضامن والمرجعية
العملات النقدية كما ذكرنا تم افتكاكها من الذهب فلم يعد لها ضمان، لذلك أصبحت قوة العملة بقوة بنكها المركزي المصدر لها، وأقوى بنك مركزي موثوق في الوقت الحالي هو البنك الفيدرالي الأمريكي، الذي يقوده نظام الاحتياطي الفيدرالي عريق التأسيس (1913).
هذه القوة هي التي تنقص العملات الرقمية، فمهما عظم سعر البيتكوين أو غيره من العملات الرقمية إلا أن خاصية الضامن والمرجعية المفقودة فيه تجعله حتى تاريخه غير مستطيع الصمود أمام الدولار، إلا أن التحول النقدي الرقمي قد يكون حتمي حسب المعطيات وتسابق الدول وعلى رأسها أمريكا لتقنين وتشريع الانظمة لإصدار أو دعم عملات رقمية موثوقة، لكن يبدو أن الصراع الاقتصادي الحالي بين الصين وأمريكا سيؤخر هذا التطلع إلى سنوات عدة ما لم يكن أحد القطبين يرى فيه ملاذاً آمناً لجذب الدول له ويكون أحد بدائل سويفت.
وقد لمحت الصين مرات عدة بذلك وكان ذلك هو السبب الرئيسي الذي قاد الرئيس ترمب في حملته الرئاسية الأخيرة إلى تبني البيتكوين ودعمه.
من هنا يتضح أن المعطيات قريبة المدى تعطي مؤشراً إيجابياً للدولار، إلا أن وصول الدين العام الأمريكي إلى 35 تريليون دولار نهاية 2024 وقفزاته المرعبة التي توقع معها صندوق النقد الدولي أن تصل إلى 109.5% من الناتج المحلي بحلول 2029، وكان توقعه ذلك ورصد الدين العام قبل الأحداث الاقتصادية الحالية وحالة الاحتدام بين أمريكا والصين، يجعل احتمالية فقدان الدولار للهيمنة المطلقة خلال سنتين من الآن واردة ومنطقية ما لم تنجح سياسة الرئيس ترمب بكبح جماح الطموح الصيني خلال 2025، فهل يا ترى سينجح في ذلك؟