الحفاظ على البيئة مسألة أخلاقية أولا

العالم اليوم في طور التشكل وهناك ثلاثة أضلاع ستحدد شكل العالم في المستقبل، وهي أولا، التطور العلمي في مختلف الحقول, من العلوم الكونية إلى العلوم البيولوجية الدقيقة. فالعلم اليوم قد تطور حتى صار بمقدور الإنسان أن يرسل مركباته الفضائية إلى مسافة بعيدة في أعماق الكون ليكتشف هناك احتمال وجود كواكب تماثل الأرض في طبيعتها وتكوينها الجيولوجي والمناخي, ما يعني إمكانية وجود مخلوقات تماثل الإنسان أو تختلف عنه تعيش عليها. إننا نتكلم عن مركبات فضائية تقطع سنوات ضوئية, ونحن نعرف أن السنة الضوئية الواحدة تساوي أكثر من تسعة مليارات كيلومتر, ومع كل هذا التطور العلمي ما زال الكون, بل مجرتنا ـــ وبكلام أدق ـــ مجموعتنا الشمسية, مجهولة لنا بنسبة أكثر من 99 في المائة, وهذا هو العلم الذي يزيد عند الإنسان حالة الخشية من الله. ويزداد هذا العلم روعة وهو ينتقل من هذا الكون الفسيح إلى عالم الخلية المتناهي في صغره والعظيم في دقته وتنظيمه, فالعلم في حيرة والعلماء في دهشة وهم يشهدون ما تنطوي عليه هذه الخلية من نشاطات وما تزدحم به من قوى, فبعض العلماء يقول إن الخلية الواحدة في حاجة على الأقل إلى خمسة آلاف عقل حتى تدير كل هذا العمل الذي تقوم به, وهناك من يقول إن الخلية ما هي إلا عالم يعيش فيه عدد لا حصر له من الملائكة ينفذون أوامر الله ويجسدون إرادته في خلقه.

#2#

أما الضلع الثاني الذي سيشكل العالم في المستقبل فهو العولمة, فكل شيء في العالم اليوم يتعولم, فلقد ابتدأنا بعولمة الاقتصاد ورأينا كيف أن الدول باتت تتخلى طوعا أو كرها عن أنظمتها وانغلاقها التجاري لمصلحة الاقتصاد الحر ولمصلحة الانفتاح على العالم, فلم يعد بمقدور الدول أن تحمي نفسها وتمنع اقتصادها من التأثر بما يحدث في العالم, فالأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة بدأت في أمريكا وكانت لها علاقة مباشرة بقطاع الإسكان, لكنها سرعان ما امتدت واتسعت لتنتهي وتصبح أكبر أزمة اقتصادية عالمية في خلال الـ 100 سنة الماضية. ويعتقد البعض أن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة تشكل انتكاسة لمفهوم العولمة, لكن الواقع يقول العكس, وما سيحدث نتيجة لهذه الأزمة هو مزيد من العولمة, ولن يقتصر الأمر على الاقتصاد وحده. فما دام حقل الاتصالات يتطور بهذه السرعة فإننا مقبلون على عالم أكثر قربا وشعوبا أكثر تواصلا, فكل يوم تفقد الدول أجزاء من سيادتها التقليدية لمصلحة المؤسسات العالمية والمنظمات الدولية.

ونأتي الآن إلى الضلع الثالث, الذي هو محل حديثنا وهو الموضوع البيئي, فهناك مع الأسف جهل, وبالأخص عند الشعوب العربية والإسلامية بالموضوع البيئي, واستتبع هذا الجهل ظلم كبير لحق ببيئتنا الطبيعية, فنحن وبكل حرقة نمارس أقسى صور الظلم والإفساد لكل مكوناتنا الطبيعية. فباتت الأمور معلومة ومبنية على أساس علمي بأن البيئة الطبيعية المدمرة هي وبال على حياة الإنسان, فالإنسان لا يعيش وحده على هذه الأرض, إنما يشاركه فيها كائنات حية وكائنات غير حية, وهذه الكائنات لن تسكت طويلا أمام اعتداء الإنسان عليها وعلى حقها في الوجود والحياة, وبالتالي فإن أي اعتداء على الطبيعة من قبل الإنسان وأي ظلم لها سيدفع بهذه الكائنات الحية وغير الحية إلى أن تجتمع مع بعض لصد اعتداء الإنسان عليها, والإنسان أضعف من أن يقف في وجه الطبيعة إذا غضبت, فما عند الطبيعة من قدرات وإمكانات وربما أسلحة تستطيع بها أن تعيد الرشد لهذا الإنسان الطاغي والمتهور عندما يمارس طغيانه وتهوره على الطبيعة. فمشكلة الانحباس الحراري فقط أدت وحدها إلى أن يعيش العالم ما بين جفاف تموت بسببه الحياة وما بين أعاصير وفيضانات تأتي بالموت والخراب لكل شيء. وكلنا رأى المظاهر المخيفة, بل المرعبة, لتوسنامي اليابان بعد زلزالها الكبير, ورأينا كيف استطاعت مياه المحيط الهادئ أن تعبث وتدمر كل شيء في طريقها, فالبواخر العظيمة وجدت نفسها وهي تستقر في شوارع المدينة. إن أعظم خمسة أعاصير من تسعة شهدها العالم حدثت في سنة واحدة, 2005, وكل ذلك بسبب تعاظم الانحباس الحراري. أما هنا نحن في المملكة فإننا نعيش جملة من التحديات البيئية تتطلب منا فعلا درجة عالية من الوعي للتعامل معها بشكل جدي وبمشاركة جميع فئات المجتمع, فمثلا نحن من أفقر دول العالم مائيا, ومع هذا فهناك هدر كبير وإسراف فظيع وإدارة غير رشيدة لمواردنا المائية, وهناك تناقص كبير في مخزوننا من المياه الجوفية, أما مياه الخليج العربي وهو مصدر مهم وحيوي لثروتنا السمكية ومورد رئيس في مجال تحلية المياه, فإننا نرى أن نسبة التلوث فيه وصلت إلى حدود 50 مرة ضعف الحد الطبيعي من التلوث. ولا نتكلم عما يتسبب فيه ردم السواحل بالنسبة للثروة السمكية, وما يتسبب فيه عدم التخطيط العمراني السليم في تهديد مستقبل الواحات الطبيعية المنتشرة في أنحاء المملكة.

جوانب كثيرة لها علاقة بالموضوع البيئي, لكننا في حاجة إلى الأساس الأخلاقي لنبني عليه وعيا اجتماعيا عاما يعزز تفاعل الناس مع كل القضايا البيئية, فهناك اعتقاد بأن الموضوع البيئي موضوع أخلاقي في الصميم, فالأخلاق كمفهوم عند الناس هي المجال الذي يعنى بحفظ الحقوق في إطار تعامل الناس مع بعضهم, وأكثر من ذلك فإن الأخلاق تسعى إلى الارتقاء بالإنسان سلوكا وتعاملا ليس فقط في علاقته مع الناس, لكن أيضا في علاقته مع نفسه. لكن هذا المعنى هو المستوى الأول من الأخلاق, وعلينا أن نعرف أن هناك مستويات أخرى للأخلاق, فهناك حقوق ليس فقط للناس الذين يعيشون زماننا, فالأجيال القادمة لها أيضا حقوق علينا, وبالتالي الاهتمام بالبيئة الطبيعية إقرار بهذه الحقوق, والتزام أخلاقي منا للأجيال القادمة. وليس الأمر مقتصرا على حقوق الناس, فالأخلاق الحقة توسع من مفهوم الحقوق, فهي تقول إنه لكل الكائنات الحية التي تعيش وتشارك الإنسان الحياة على هذا الكوكب، هي الأخرى لها حقوق، والواجب الأخلاقي يحتم على الإنسان أن يحفظ لها حقوقها. لا بل إن موضوع الأخلاق يتسع أكثر ويشمل أيضا الكائنات غير الحية, فالحجر والصخر والماء والهواء والتراب والماء كلها لها حقوق علينا ومن الواجب الأخلاقي علينا أن نحفظ لها حقوقها. فالهواء الذي نلوثه بالأدخنة والغازات السامة كائن له حقوق, وهل ندري أن تلويثنا له وإفساده قد يعني تعطيلا لدوره ووظيفته الوجودية, فمن يدري أن هذا الهواء الذي لوثناه بسمومنا قد مر علينا وهو في طريقه إلى أناس وكائنات حية من نباتات وحيوانات لتستنشقه ولتحيا به, لكنها ستجده وقد جعلناه هواء فاسدا وقاتلا. وهل ندري كم سيموت من البشر والأسماك والحيوانات بهذا الماء الذي قد تلوث بسببنا؟ أليس من حق السيل الذي دمر أحياء كثيرة في جدة أن ينتقم منا لأننا نحن الذين اعترضنا طريقه؟ فهذا السيل الذي اعترضنا طريقه بالمباني والطرق قد يكون مأمورا من قبل الله, وهي السنن الإلهية, أن يحمل هذا الرزق من الماء إلى البحر والآبار وكثير من الموجودات التي هي في حاجة إلى الماء الذي يأتي به إليها هذا السيل, وبهذا يكون اعتراض طريقه ليس فقط خطأ عمرانيا, إنما أيضا ظلم وجريمة أخلاقية في حق هذه الموجودات, وأنه من العدل أن ندفع ثمن هذا الظلم في هذه الدنيا وأن نحاسب عليه في الآخرة. وأختم هذا المقال الأخضر عن البيئة بالقول إن الإنسان المؤمن المسلم هدفه الأكبر أن يخرج من هذه الدنيا بعبادة فيها قدر من الإخلاص ما ينجيه من عذاب النار, وعنده أيضا ذلك القدر الكافي من العمل الصالح الذي به يستحق الدخول إلى الجنة. لكن علينا أن نعلم أن العبادة والتسليم لأوامر الله هي قد تنجينا من نار الله الموقدة, لكن بالظلم قد نعود وندخل النار من جديد حتى إن كنا من العباد, فالاعتداء على الطبيعة وإفسادها والتعدي على حقوق الكائنات الحية وغير الحية التي تشاركنا في هذه الحياة نوع من أنواع الظلم التي ربما بسببها ندخل النار. أما الدخول إلى الجنة والعيش في نعيمها أمر مشروط بالعمل الصالح, وميزان العمل الصالح هو مقدار ما فيه من نفع وخير للآخرين, والطبيعة بكل مكوناتها هي من ضمن الآخرين الذين ينتظرون منا الأعمال الصالحة, وبالتالي فرعايتنا الطبيعة والاهتمام بها من الأعمال التي يثقل بها ميزان أعمالنا الصالحة, وبالتالي ربما ندخل الجنة بسبب عمل صالح فيه حفظ للبيئة كنا نعتقد أنه مجرد عمل جيد وليس في اعتقادنا أنه هو فعلا عمل صالح. وهناك جانب آخر في هذه المسألة وهي أن الجنة التي وعد بها المؤمنون هي طبيعة أخرى وإن كانت هي أرقى ولا تقارن في جمالها ورحابتها واتساعها بطبيعة الأرض، إلا أنها تبقى طبيعة فيها أشجار وأنهار وطيور وجبال وهضاب جميلة, فكيف للإنسان غير الأخلاقي الذي خرب الطبيعة في هذه الدنيا, فقطع الأشجار ولوث الأنهار وأزال الجبال وخرب الواحات وأفسد الهواء أن يدخل الجنة حتى ولو كان عنده من الأعمال الصالحة التي قد تعطيه هذا الحق؟ فكيف يستأمن هذا الإنسان الذي اختبر في هذه الدنيا فخرب طبيعة الأرض ألا يخرب طبيعة الجنة ويفسدها؟ وإذا كان الفساد والتسبب في خراب طبيعة الأرض هو من سوء الأخلاق, فكيف للإنسان سيئ الأخلاق أن يكون في الجنة مع سيد الأنبياء والرسل محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ الذي وصفه الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ في القرآن بأنه على خلق عظيم؟
أخيرا, علينا أن نعطي الموضوع البيئي ما يستحقه من اهتمام, فالاعتداء على البيئة الطبيعية ظلم, وهو من أنواع الظلم الذي يعود بالضرر على الإنسان في الدنيا والآخرة, والاهتمام بالبيئة الطبيعية ممارسة أخلاقية يشكر عليها الإنسان في الدنيا بمزيد من النعم وفي الآخرة بالجنة والرضوان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي