بقية .. السعادة
سبق أن كتبت مقالة في ذات الموضوع، وقد ركزت فيها على الأسباب الكونية التي يستطيع كل أحد أن يحققها، وهي أسباب فعّالة أكثر في حالة الرخاء والاسترخاء، أما في حالة الأزمات فالأسباب الشرعية تكون أكثر فعالية وأهمية والسعيد السعيد من جمع الحالين بغض النظر عن ظروف الحياة ومجرياتها، وهذه لا تتأتى إلا لصنف نادر من البشر، سُمّي فوق العادة البشرية، واليوم أتحدث عن الأسباب الشرعية وبعض الكونية التي يستطيعها كل أحد أيضا أن يطبقها بغض النظر عن مستواه المادي والمعنوي، ومنها:
1) فكّر في الآخرة: يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم: ''من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدّر له'' صحيح الترمذي.
ولذا لكي توهب لك الدنيا فعليك أن تطلب الآخرة، يقول الإمام ابن حزم: ''تطلبّتُ غرضا يستوي الناس كلهم في استحسانه وطلبته، فلم أجده إلا واحدا وهو: طرد الهم''.
فطرد الهم، مذهب قد اتفقت الأمم كلها منذ خلق الله العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء، ويعقبه عالم الحساب، على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئا سواه.
فلما استقر في نفس هذا العالم الرفيع وأفاد الله تعالى لفكرة هذا الكنز العظيم، بحث عن سبيل موصله - على الحقيقة - إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفيس الذي اتفق عليه جميع الخلق، فلم أجد إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة.
فكل عمل من طلب مال أو صيت أو لذة، هو هموم حادثة وعوارض تعرض من خلالها إذا لم يتوجها التوجه إلى الله عز وجل، أما إذا توج أعماله كلها للآخرة فإنه سالم من كل عيب، خالٍ من كل كدر، يتوصل إلى طرد الهم على الحقيقة، فإذا امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يُسر، إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال، ورأيته أن قصّر بالأذى سُرّ، وإن نابته نائبة سُرّ، وإن تعب فيما سلك فيه سُرّ، فهو سرور متصل أبدا وغيره بخلاف ذلك أبدا.
2) اصبر أو تصبّر: بعض الناس ألهمهم الله سجية الصبر فكانت خلقا لهم وبعضهم دربته السنوات والحوادث فأصبح متصبرا، وكليهما سيجني ثمار صبره بعد حين وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقال: ''الصبر والسماحة'' رواه الإمام أحمد بالمسند وقال الله تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (35) سورة فصلت، والصبر هو حبس النفس على ما تكره، وهو من خواص الإنسان التي تميز بها عن سائر الحيوان، فإن البهائم لا تحبس نفسها عن شهوة من الشهوات كالغذاء وغيره ولا تنظر في عواقب شيء من مشتهياتها. بل هي تنظر شهوتها الحاضرة فقط ولا تحبس نفسها عنها أصلا، والصبر له أسماء تتجدد، فإن كان صبرا عن شهوة البطن والفرج سُمّي: عفة. وإن كان على احتمال مكروه. فإن كان في مصيبة سُمّي: صبرا وضده الجزع والهلع. وذلك بأن يسترسل في ضرب الخدود وشق الجيوب - وإن كان الصبر في احتمال الغنى بأن يجاوزه بالشكر، سُمّي: ضبط نفس. ويقابله البطر. وإن كان الصبر في الحروب وملاقاة الأهوال، سُمّي: شجاعة. ويضادها الجبن. وإن كان الصبر عن موجبات الغضب. سُمّي: حلما ويضاده التذمر. وإن كان الصبر عند نائبة مضجرة من نوائب الزمان. سُمّي: سعة الصدر. ويضاده الضجر وضيق الصدر. وإن كان الصبر بإخفاء كلام يسوء غيره ظهورُه، سُمّي: كتمان سر. وإن كان الصبر على القدر اليسير من الحظوظ، سُمّي: قناعة. وإن كان الصبر عن فضول العيش بأن اقتصر على أقل القوت، سُمّي: زُهدا.
3) عش لغيرك: وجدت أن أفضل وسائل إسعاد نفسك هي أن تسعد غيرك ابتداء، ثم بتلقائية غير محسوبة يغمرك الرضا والفرح، يقول الأستاذ سيد قطب: عندما نعيش ذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نحن، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود .. أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض!... إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهما، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا. وليست الحياة بعدد السنين، ولكنها بعدد المشاعر. وما يسميه (الواقعيون) في هذه الحالة (وهما) هو في الواقع (حقيقة) أصح من كل حقائقهم!... لأن الحياة ليست شيئا آخر غير شعور الإنسان بالحياة. جرد أي إنسان من الشعور بحياته، تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحس الإنسان شعورا مضاعفا بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلا..
4) فكّر في القطعة؛ أقصد لا تفكر بالجمّلة، بل اليوم الذي تعيشه فقط أعلم أن هذا من الصعب بمكان، فالعجيب الغريب أن الإنسان كلما كبر في العلم أو المنصب أو المال أو الجاه ازداد تعلقه بالمستقبل وحساباته، كلٌ بحسب كبره فالعلاقة طردية، وقد وجدت أن أقل الناس من ذلك، هم أقل الناس تعلقا بذلك؛ ولذلك أجزم لك وأنا جربت الحالتين، إن أكثر الناس سعادة هم متوسطو الحال (غالبا)، وليس الفقير المسكين المديون فهذا يعيش حياة نكد وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفقر.
الشاهد، كي تملك تلك السعادة فعليك أن تحد من تطلعاتك للمستقبل، بأن تقلل زيادتك الرفاه المادي، وتوظف طاقتك باتجاه الحاضر المعاش، وكيف تعيشه، وتستمتع به دقيقة بدقيقة، وأخشى أنك إن لم تفعل سيأتي ذلك الزمان الذي تملك فيه كل شيء، باستثناء الصحة والأسرة المتماسكة والرغبة في الحياة.
5) ذِكْر الرب: الإنسان ما خلق بلا ابتداء، وعندما يضعف فعليه أن يتذكر فيلجأ ويذود بنفسه إلى من أحسن خلقه ثم هدى، ومن أعظم الذكر ''الأذكار التي تقال في أوقات الشدة، ومن أبرزها كما أوردها الإمام النووي - رحمه لله''، عن أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ''ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب.. الله الله ربي لا أشرك به شيئا'' رواه أبو داود.
وروى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ''إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه: كلمة أخي يونس عليه السلام: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) سورة الأنبياء آية 87.
وعن عمر بن شعيب، عن أبيه عن جده: ''إذا فزع أحدكم في النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره، قال وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من ولده ومن لم يبلغ منهم كتبها في صك، ثم علقها في عنقه'' رواه الترمذي.
وأما إذا أصابه هم أو حزن فيقول: عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ''من أصابه هم أو حزن فليدعُ ربه بهذه الكلمات: اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي. قال قائل: يا رسول الله إن المغبون لمن غبن هذه الكلمات، قال: أجل قال: فقولوهن وعلموهن، فإنه من قالهن وعلمهن التماس ما فيهن أذهب الله كربه وأطال فرحه'' رواه الطبراني.
6) لا تختبئ وارفع صوتك: إن رفع الصوت بالحديث عن نعم الله هو عين الشكر ويدخل السعادة على النفس، إلا أن التحدث بالنعم يناقض ثقافتنا السائدة، فقد ابتلينا بالهزيمة النفسية؛ خوفا من العين والسحر وهي حق، ولكن أين الإخلاص والتوكل والحرز ؛ يقول شيخ الإسلام الثاني عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في كتابه فتح المجيد شرح كتاب التوحيد: ''باب قول الله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) 175 سورة آل عمران، قال: الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى، قال تعالى: (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) 28 سورة الأنبياء، والخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام: أحدهما: خوف السّر، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أن يصيبه لله تعالى، قال تعالى: (إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) 54 سورة آل عمران، وقال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) 36 سورة الزمر والثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه؛ خوفا من بعض الناس وهذا محرم وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد.
7) نسيان ما مضى: يقول العلامة عبد الرحمن السعدي في كتابه الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، الذي قمت بشرحه: ''ومن الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهم والغم: السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، وأن ذلك حمق وجنون، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها، وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله، مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته. فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهول ما يقع فيها من خير وشر وآمال وآلام، وأنها بيد العزيز الحكيم، ليس بيد العباد منها شيء إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها، ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره، واتكل على ربه في إصلاحه، واطمأن إليه في ذلك، إذا فعل ذلك اطمأن قلبه وصلحت أحواله، وزال عنه همه وقلقه.
8) اعترف بالنعمة: يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه جدد حياتك: ''وإذا كنت في زهو عما أوتيت من صحة في بدنك، وسلامة في أعضائك، واكتمال في حواسك، فاصح على عجل. .. وذُق طعم الحياة الموفورة التي أتيحت لك، واحمد الله ولي أمرك، وولي نعمتك على هذا الخير الكثير الذي حباك إياه. .. ألا تعلم أن هناك خلقا ابتلوا بفقد هذه النعم، وليس يعلم إلا الله مدى ما يحسونه من ألم؟ منهم من حبس في جلده، فما يستطيع حركة بعد أن قيده المرض. ومنهم من يستجدي الهواء الواسع نفسا يحيى به صدره العليل، فما يعطيه الهواء إلا زفرة وتخرج شاحبة بالدم!!. ومنهم من عاش منقوص الأطراف أو المشاعر!!. ومنهم من يتلوى من أكل لقمة؛ لأن أجهزته الهاضمة معطوبة. .. إذا كنت معافى من هذه الأسقام كلها فهل تظن القدر زودك بثروة تافهة؟ أو منحك ما لا تحاسب عليه؟ كلا، كلا. إن الله يكلفك بقدر ما يعطيك. ومن الخطأ أن تحسب رأس مالك هو ما اجتمع لديك من ذهب وفضة!!. إن رأس مالك الأصيل جملة المواهب التي سلحك الله بها، من ذكاء، وقدرة وحرية، وفي طليعة المواهب التي تحصى عليك، وتعتبر من العناصر الأصلية في ثروتك ما أنعم الله به عليك من صحة سابغة، وعافية تتألق من رأسك إلى قدمك، وتتأنق بها في الحياة كيف تشاء. والغريب أن أكثر الناس يزدرون هذه الثروة التي يمتلكونها، لا يشركهم أحد فيها، أو يزاحمهم عليها!!.
9) تقبّل الحسد: مسكين من يظن أنه سيسلم من الحسد، ولذا لا تملك إلا أن تتعايش معه يقول الأستاذ محمد الغزالي أيضا: ''وقد كنت أظن أن مسالك العظماء، وأنماط الحياة المترفعة التي تميز تفكيرهم ومشاعرهم هي السبب في كراهية الساقطين لهم. ثم تبينت خطأ هذا الظن، فكم من موهوب لا تزيده مجادلته إلا تقربا إلى الناس، وعطفا عليهم. ومع ذلك فإن التعليقات المرة تتبعه، وكذلك التشويه المتعمد لإثارة الطبيعة، والتضخيم الجائر لأخطائه التافهة!!! فما السر إذن؟ السر أن الرميم يرى في الجمال تحديا له، والغبيَ يرى في الذكاء عدوانا عليه، والفاشل يرى في النجاح ازدراء به، وهكذا!! فماذا يفعل النوابغ والمبرزون ليربحوا هذه الطبائع المنكوسة؟
إذا محاسني اللآتي أدل بها
كانت ذنوبا فقل لي: كيف أعتذر؟!
إن وقائع الحياة أعني مما نتمنى ودسائس الحاقدين ومكايدهم ومؤامراتهم لا تنتهي حتى تبدأ، وهم يصلون في أحيان كثيرة إلى ما يشتهون من سوء، وكم من عبقريات مرَغتها في الوحل خصومات نسيه!! إن الحال في كل زمان تحتاج إلى أمداد سريعة من المساندة أو العزاء لتعيد إلى الموهوبين ثقتهم بأنفسهم، وتشجعهم على المُضيّ في طريقهم دون يأس أو إعجاب. وذلك لكثرة ما يصيبهم من تعويق المثبطين وإيذاء الناقصين والشامتين. أجل إنهم في حاجة إلى أن يقال لهم: لا تأسوا فإن ما تتوقعون من نقد أو تجاهل هو بسبب ما أوتيتم من طاقة ورسوخ.
أيها السعوديون .. أتمنى لكم حياة سعيدة بلا نكد .. قولوا يا الله.