ساحة التجارة العالمية للأقوياء ومن يفرض هيبته
ناشد الاقتصادي البارز جاغديش باغواتي بضرورة إنقاذ جولة الدوحة للمفاوضات التجارية، نظراً للمخاطر التي تحدق بالاقتصاد العالمي. وأشار، في مقاله ''محادثات التجارة والببغاء الميت'' الذي نشرته جريدة الاقتصادية يوم الأربعاء 18 ربيع الأخر 1432هـ، إلى أن فشل جولة الدوحة، من شأنه أن يكبد العالم قدراً كبيراً من المكاسب السابقة. حيث أن ذلك سوف يوقف تقدم الفقراء في البلدان النامية ويخفض من الدخل الحقيقي للعمال في البلدان المتقدمة، بالإضافة إلى توجيه ضربة قاضية لمصداقية منظمة التجارة العالمية ومستقبلها بعد أن كانت مثالاً يكاد يكون فريداً للفعالية والتعددية الديمقراطية. وأكد على أهمية إقناع الرافضين الرئيسيين كالولايات المتحدة الأمريكية لخفض إعانات الدعم الزراعية، لتحقيق النجاح المنشود لمفاوضات جولة الدوحة، التي بلغت عامها العاشر.
والتخوفات التي أطلقها باغواتي بارزة لا تخفى على العيان. فالدول المتقدمة تنفق أكثر من مليار دولار يوميا إعانات دعم لقطاعاتها الزراعية. وهذه المبالغ تتجاوز ستة أضعاف ما تقدمه من إعانات إلى الدول النامية لمساعدتها على مواجهة الفقر ومساندة التنمية لديها.
حيث نجد أن إجمالي ما أنفقته الولايات المتحدة الأمريكية عام 2009م كإعانات على قطاعها الزراعي تجاوز (180) مليار دولار. وقد أوردت بعض التقارير أن (62) بالمائة من كل دولار يكسبه المزارع الأمريكي هو نتاج للمساعدات التي تقدمها الحكومة الأمريكية لذلك المزارع.
والأمر في الحقيقة لا يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية، فالاتحاد الأوروبي لا يتردد بتخصيص أكثر من 40 بالمائة من الميزانية لدعم تنمية القطاع الزراعي. وقد أنفق الاتحاد عام 2010م نحو (75) مليار دولار كإعانات دعم للقطاع الزراعي، على الرغم من أن هذا القطاع لا يمثل إلا نسبة (2) بالمائة من إجمالي الناتج المحلي للاتحاد.
ومن الجدير التنويه إليه إن الدول المتقدمة لا تتوانى عن تقديم كافة أشكال الدعم لقطاعاتها الإنتاجية وبغض النظر عما تتطلبه حقيقة المعطيات الاقتصادية على الواقع العملي. فالاتحاد الأوربي سارع عام 2009م، في تقديم إعانات لمنتجي الألبان، لمواجهة انخفاض أسعار الحليب جراء الفائض في الإنتاج لديهم، بدلا من السعي نحو تخفيض الإنتاج. مما أدى إلى إغراق أسواق الدول النامية، وخصوصا الإفريقية، بصادراته من الحليب ذات الأسعار المنخفضة.
وقد أبدعت الاقتصادية آن كروغر (Anne O. Krueger) في توصيف الإعانات والدعم الذي تقدمه الدول المتقدمة إلى قطاعها الزراعي. حيث ذكرت أن حجم ذلك الدعم كاف لإتاحة الفرصة لكل بقرة مقيمة على ارض الدول المتقدمة، للسفر سنويا بالطائرة حول العالم وعلى الدرجة الأولى، إضافة إلى منح كل منها مصروف جيب قدره 1450 دولار.
سياسات الدعم اللامحدود التي تتبناها الدول المتقدمة لقطاعاتها الإنتاجية، أدت إلى تدهور المستوى المعيشي بالدول النامية. فقطاع الزراعة في افريقيا، مثلا، الذي يسهم بما نسبته 30 بالمائة من إجمالي الإنتاج المحلي للقارة ويعمل فيه أكثر من 70 بالمائة من القوى العاملة، يعاني بسبب الإعانات السخية التي تنفقها الدول المتقدمة، والتي ساهمت في تخفيض أسعار منتجاتها وبالتالي الحد من قدرة المنتجات الزراعية الإفريقية على منافستها، حتى في الأسواق الافريقية نفسها.
والأدهى في الأمر، إن الدول المتقدمة تضغط من جانب على الدول النامية لدفعها نحو إبرام اتفاقيات تجارة حرة وشراكة ثنائية، وبما يمكنها من النفاذ وبشكل اكبر إلى أسواق تلك الدول. ولا تتردد من جانب أخر عن فرض قيود تجارية وفنية مختلفة لإعاقة نفاذ صادرات الدول النامية إلى أسواقها، حماية لصناعاتها الوطنية. وتستغل المفاوضات التجارية لتنصب نفسها رمزا وحكما، وتطالبها بشهادة حسن سلوك وفقا لمبادئها ومعاييرها الخاصة. مما يضاعف من حجم مآسي الدول النامية ويزيد من معاناتها.
ودلالات ذلك، ما واجهته وتواجهه دول مجلس التعاون الخليجية من فرض رسوم تعسفية على صادراتها من المنتجات البتروكيماوية بحجة الإغراق من قبل عدد من الدول، كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا وتلتها الصين والهند وتركيا. وإصرار الاتحاد الأوروبي على تضمين اتفاقية التجارة الحرة الجاري التفاوض حولها منذ عقود مع مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مواد تتعلق بحقوق الإنسان وقضايا أخرى لا تتصل بالتجارة وتعكس معايير ومبادئ خاصة بالاتحاد وليس بالضرورة تتلائم مع معتقدات واحتياجات المجتمع الخليجي. وأخذا بالاعتبار معطيات واقع التجارة العالمية المطروحة، يؤسفني إفادة الأستاذ الفاضل باغواتي بأن أمد المفاوضات لجولة الدوحة أو غيرها من محاولات لتحرير التجارة العالمية سوف يطول. فمصالح الدول المتقدمة راسخة استنادا إلى قوتها في ساحة التجارة العالمية وليس هناك ما يجبرها أو يدفعها إلى تقديم تنازلات واضحة.
وبالتالي، إذا ما أرادت الدول النامية أن ترعى مصالحها الوطنية، عليها أن تعتبر بالدروس والتجارب التي افرزها الواقع العملي للتجارة العالمية والتي أكدت على أن:
1 ــ الآمال المشرقة التي رسمتها الدول المتقدمة للدول النامية تحت شعار مزايا العولمة وتحرير التجارة، كانت خادعة.
2 ــ ازدواجية المعايير إستراتيجية راسخة لدى الدول المتقدمة، ولا تقتصر على الشؤون السياسية بل تمتد لكافة الشؤون. فالدول المتقدمة مستمرة في تقديم إعانات كبيرة، لاسيما بالقطاع الزراعي، ساهمت في إغراق الأسواق الدولية، وتفرض في نفس الوقت رسوم إغراق تعسفية على منتجات الدول النامية للحد من فرص نفاذها لأسواقها.
3 ــ الدول المتقدمة لديها خيارات متعددة للعوائق والقيود على النفاذ إلى أسواقها ومنها، معايير العمل والبيئة والمعايير الاجتماعية وحقوق الإنسان وحماية الحقوق الفكرية.
4 ــ الدول المتقدمة أصبحت أكثر حرصا على رعاية مصالحها وحماية أسواقها، في ظل الأزمة المالية الدولية. وليس من المعقول أن تكون الدول النامية حريصة أكثر من الآخرين على رعاية الاقتصاد الدولي وحرية التجارة العالمية.
5 ــ الدول المتقدمة لن تعين أي كان إذا لم يساعد نفسه ويفرض هيبته على ساحة التجارة العالمية.
6 ــ من يريد تحقيق مكاسب مجزية في ساحة التجارة العالمية عليه: أن يحدد استراتجيات واضحة لمصالحه الاقتصادية، ويؤمن بان مصالح الدول الأخرى التجارية والاستثمارية على أرضه ليست حقا مكتسبا لهم فما يحتاجه بدائله متاحة في دول عديدة.
7 ــ المستشارون ومكاتب المحاماة الأجنبية التي تتعاقد معها الدول النامية للدفاع عن قضاياها التجارية لدى الدول المتقدمة، تستنزف الأموال ولا تخدم المصالح على الأمد الطويل فهي ترسخ قوة وهيبة الدول المتقدمة.