بارومتر عام 2010 للفساد العالمي: الفساد ظاهرة عالمية
لم يكن الفساد المالي والإداري ظاهرة محلية أو عربية الجذور، بل ظاهرة عالمية وتاريخية؛ لكن ما يعطيها صفة العالمية أنها تبني مؤسسات خاصة بها تتجاوز إطار الدولة الوطنية ولها مروجون من مختلف الجنسيات، فكما أن هناك الشركات العابرة القومية أيضا هناك الفساد العابر للقومية. ولكن ما الدوافع التي تسهم في عولمة الفساد؟ هل الفقر الجزء الوحيد في هذه المعادلة أم تراجع منظومة القيم لدى الناس والتطاول على المال العام والخاص؟ أم أن سيادة ثقافة الجشع وعدم اكتفاء بعض الأشخاص بما يستحقونه ضمن الإطار الشرعي والقانوني هي التي تؤدي إلى تفاقم هذه الظاهرة؟
فمشكلة الفساد لم تعد ظاهرة محلية يتم بحثها في إطار هذا المجتمع أو ذاك، بل أصبحت تشغل المجتمع الدولي بأسره وأصبح الفساد المستشري ظاهرة في معظم دول العالم وبدرجات تتفاوت بحسب طبيعة المجتمع ومنظومته التشريعية القادرة على إقامة نظام قانوني صارم يستطيع لجم قوى الفساد التي تزداد بشكل مطرد.
فبحسب البيانات الدولية التي صدرت أخيرا والتي كشفت عنها الجمعيات والمؤسسات، أكدت أن العديد من عمليات الفساد تتم وبشكل واضح وكبير في أرفع المؤسسات الدولية والجهات الحكومية، ولم تقتصر على الموظفين البسطاء فحسب، بل بعض المحللين الذين ألقوا باللائمة على الأزمة الاقتصادية العالمية في ارتفاع معدلات الرشوة وتراجع ثقة الناس بالحكومات والبنوك والمؤسسات المالية! وشملت استطلاعات المنظمة 90 ألف شخص في 86 بلدا. أما استطلاع بي بي سي فشمل 13 ألف شخص في 26 بلدا. ومن بين الأسئلة التي وجهت لمن شملهم الاستطلاع، ما هي أكثر القضايا خطورة؟ وجاء الفساد ثاني أخطر قضية بعد الفقر.
واعتبر المستطلع آراؤهم في البرازيل ومصر وكولومبيا والفلبين وكينيا أن الفساد قضية خطيرة للغاية. وفي أوروبا، كان الإيطاليون الأكثر قلقا إزاء الرشوة. وتزامن نشر استطلاع بي بي سي مع يوم مكافحة الفساد الذي تقيمه الأمم المتحدة. ويُذكر أن منظمة الشفافية تنشر كل عام ومنذ عام 1995 مؤشرا للفساد بناء على تصنيف 180 دولة في العالم وفقا لتحليل مجموعة دولية من رجال الأعمال والخبراء والجامعيين. فيما أشارت دراسة إلى أن شخصا واحدا من بين كل أربعة في العالم دفع رشوة في الأشهر الـ 12 الماضية.
وقال نصف المستطلعين إنهم أقدموا على دفع الرشوة "تجنبا للمشكلات"، فيما قال ربعهم إنهم فعلوا ذلك "لتسريع إجراءات". أطلق على هذه الدراسة اسم "بارومتر عام 2010 للفساد العالمي"، وهي الدراسة السابعة من نوعها منذ عام 2003. وقد ركزت هذا العام على عدد أكبر من البلدان، إذ أضافت مثلا الصين وبنجلادش والأراضي الفلسطينية.
الأزمة العالمية أسهمت في تنامي روح الفساد.. يشير مقياس الفساد 2010 في منظمة "الشفافية العالمية" إلى أن المواطنين يعتقدون بتفشي ظاهرة الفساد بشكل واسع خلال السنوات الثلاث التي مضت. والمتهم الرئيس في هذا التفشي هو عالم السياسة. ولا تستثنى فرنسا من هذه الظاهرة، بل على العكس. أما بالنسبة إلى القطاعات التي تشوهت صورتها بشكل كبير في السنوات الأخيرة، فهي تتمثل في عالم السياسة، حيث اعتبر قرابة 80 في المائة من المواطنين أنه فاسد.
في الإجمال هذه الخشية لم توفر أحدا سوى القضاء الذي يبدو أقل فسادا. دانيال لوبيج، رئيس فرع فرنسا في "الشفافية العالمية"، يحلل هذه النتائج لقناة France 24 ويدل على الخاصية الفرنسية في هذا المجال، حيث أجاب عن سؤال قد طرح عليه وهو كيف تفسر هذا التطور في النظرة إلى الفساد؟ حيث قال دانيال لوبيغ (لعبت الأزمة الاقتصادية العالمية دورا كبيرا في تضخيم هذه الظاهرة). وتجدر الإشارة إلى أنه حتى عام 2007 كان الوضع قد تحسن بالنسبة لظاهرة الفساد. لكن في السنوات الثلاث الأخيرة، سجل الوضع تراجعا ملحوظا، وهي المرحلة التي شهد فيها العالم إحدى أسوأ أزماته الاقتصادية. لذا فليس من الصدفة أن تدهورت الثقة بشكل كبير في عالم الاقتصاد، القطاع الخاص والسلطة السياسية.
وأصدر صناع القرار السياسيون إعلانات كبرى، خاصة خلال قمة العشرين عام 2008. فوعدوا بعودة قوية للإرادة السياسية من أجل وضع حد للتجاوزات المالية العالمية. لكن في نظر المواطنين، لم تسفر هذه الوعود عن أي نتيجة. وهذا ما يفسر التدهور القوي في صورة العالم السياسي في تقرير الشفافية العالمية، خاصة أنه بالنسبة لبعض الأشخاص، تبدو الحدود غير واضحة بين استحالة التغيير والنقص في الإرادة.
إلى ذلك تقع فرنسا في متوسط الدول الأوروبية الأخرى. ولا يميز مؤشر الرؤية العامة لازدياد الفساد (66 في المائة) فرنسا عن جيرانها. في المقابل، هناك اتهام أقوى للعالم السياسي في فرنسا عن مثيلاتها في الدول "الغنية". وتفسر هذه الخاصية بوجود قضايا سياسية ــــ مالية. في السنتين الماضيتين، تم استجواب رئيس جمهورية سابق هو جاك شيراك، ورئيسي وزراء سابقين هما آلان جوبيه ودومينيك دو فيلبان من قبل القضاء الفرنسي. وهذا ليس بالشيء القليل! لكن المرافق العامة في فرنسا تتمتع بصورة أفضل بكثير من مثيلاتها الأجنبية.
وذكر التقرير أن شعوب أفغانستان ونيجيريا والعراق والهند من بين أكثر الشعوب التي تعيش الفساد في حياتها اليومية. فقد ذكر أكثر من 50 في المائة ممن استطلعت آراؤهم في هذه البلدان، أنهم دفعوا رشا في العام الماضي، وجاء الشعب الليبيري كأكثر الشعوب ميلا لدفع الرشى بنسبة 89 في المائة، يليه الشعب الكمبودي بنسبة 84 في المائة. وقد أعرب ربون هودس، مدير السياسات والبحوث في منظمة الشفافية الدولية، عن القلق من ارتفاع معدلات الرشا.
ووفقا للمناطق، فإن دول جنوب الصحراء الكبرى هي الأكثر استعدادا لدفع الرشا بنسبة 56 في المئة. وأقل المناطق التي تنتشر بها الرشا هي أوروبا وأمريكا الشمالية بنسبة 5 في المائة لكل منهما. من جهة أخرى وجهت وكالة مكافحة فساد نيجيرية اتهامات لنائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني ورئيس الخدمات النفطية في شركة هاليبرتون العملاقة بشأن خطة مزعومة لرشوة مسؤولين نيجيريين.
وقالت مفوضية الجرائم المالية والاقتصادية إنها قدمت 16 اتهاما أمام محكمة اتحادية عليا في أبوجا ضد تشيني والرئيس التنفيذي لهاليبرتون ديفيد ليسار ومديرين آخرين في قضية يعود تاريخها إلى منتصف التسعينيات. ووجهت التهم لشركة هاليبرتون التي ترأسها تشيني خلال التسعينيات وأربعة مسؤولين آخرين. وتولى تشيني منصب نائب الرئيس الأمريكي في الفترة من 2001 إلى 2009.
وقال المتحدث باسم مفوضية الجرائم المالية والاقتصادية فيمي بابافيمي "وجهت التهم ضد ديك تشيني وثمانية آخرين (أشخاص وشركات)". وأقرت شركة كيه. بي. ار الهندسية ومقرها هيوستون وهي وحدة سابقة لهاليبرتون بالذنب العام الماضي في اتهامات أمريكية تقول إنها دفعت 180 مليون دولار رشا بين عامي 1994 و2004 لمسؤولين نيجريين لضمان عقود بقيمة ستة مليارات دولار لمشروع الغاز المسال في جزيرة بوني في دلتا النيجر.
وتوصلت كيه. بي. ار وهاليبرتون إلى تسوية بقيمة 579 مليون دولار في الولايات المتحدة. لكن نيجيريا وفرنسا وسويسرا أجرت تحقيقاتها في القضية. وقالت هاليبرتون التي باعت كيه. بي. ار في 2007 إنها لم تفحص التهم لكنها كررت أن عملياتها الحالية في نيجيريا التي تخضع لتحقيقات مسؤولي مفوضية الجرائم المالية والاقتصادية لا علاقة لها بالقضية. بحسب وكالة الأنباء البريطانية.
وقالت المتحدثة تارا مولي "لا يزال موقفنا هو أن هاليبرتون غير متورطة في المشروع المتعلق بتحقيق الرشوة وأنه لا يوجد أساس قانوني للتهم الموجهة ضد هاليبرتون فيما يتعلق بهذا المشروع".
ومن بين المتهمين في نيجيريا الرئيس التنفيذي لكيه. بي. ار وليام أوت والرئيس التنفيذي السابق لكيه. بي. ار ألبرت "جاك" ستانلي الذي عمل تحت رئاسة تشيني عندما ترأس هاليبرتون وأقر بالذنب عام 2008 في التهم الأمريكية المتعلقة بالقضية.
وقالت كيه. بي. ار في بيان إن أوت انضم للشركة فقط في شباط (فبراير) 2006 بعد وقوع المخالفات المزعومة وأن باقي فريقها التنفيذي تم تعيينه بعد ذلك. وقال بابافيمي إن من بين الشركات الواردة في عريضة الاتهام النيجيرية إلى جانب هاليبرتون وكيه. بي. ار وحدة هاليبرتون النيجيرية وكونسورتيوم تي. اس. كيه. جيه وتي. اس. كيه. جيه النيجرية.
فيما أكد محامي نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني أن الاتهامات التي تنوي نيجيريا توجيهها إلى موكله في قضية رشا دفعتها شركة هاليبرتون "لا أساس لها".
وقال المحامي تيرينس اودانل في بيان إن "أي تلميح إلى سلوك يمكن إدانته الآن وبعد سنوات (من الوقائع) لا أساس له"، مذكرا بأن السلطات الأمريكية حققت من قبل في الشركة المعنية، في إشارة إلى هاليبرتون.
وأضاف أن "وزارة العدل وسلطة ضبط البورصة أجرتا تحقيقا كاملا حول الشركة ولم تجدا أي مؤشر على مخالفات من قبل ديك تشيني في منصبه كمدير ورئيس مجلس إدارة الشركة". وكان ناطق باسم اللجنة النيجيرية لمكافحة الفساد قد أعلن أن تشيني سيلاحق دون أن يوضح الاتهامات الموجهة إليه. واكتفى بالقول إن هذه الاتهامات "ليست منفصلة عن دوره على رأس هاليبرتون". وأوضح المدعي العام النيجيري المكلف بالنظر في الملف غودوين أوبلا، أن التهم التي ستوجه إلى تشيني سيتم إبلاغ المحكمة بها. وقال إنه يتوقع أن يصدر قاض نيجيري مذكرة توقيف دولية بحق تشيني سيتم إرسالها إلى الإنتربول. واستدعت لجنة الجرائم الاقتصادية والمالية المسؤول المحلي لهاليبرتون في نيجيريا. وقال المتحدث باسم اللجنة إنه سيتم استجوابه حول رشوى بقيمة 182 مليون دولار في إطار بناء مصنع للغاز الطبيعي المسال في جنوب نيجيريا. بحسب وكالة أنباء فرانس برس.
وتم تفتيش مكاتب الشركة في لاغوس. وجرى التحقيق مع عشرة أشخاص لفترة وجيزة قبل الإفراج عنهم. وفي 2009، وافقت الشركة الأمريكية للخدمات النفطية كيلوج براون آند روت وشركتها الأم هاليبرتون على دفع مبلغ قياسي بلغ 579 مليون دولار بعد إقرارهما بالذنب في قضايا فساد في نيجيريا. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2010، أصدرت محكمة نيجيرية أيضا حكمها بإدانة مستشار للرئيس النيجيري السابق أولوسيجون أوباسانجو في القضية نفسها.
إذا ثمة لغة وتناغم عالمي يوحد لغة الفساد ويجد لها موطأ قدم في مختلف أصقاع المعمورة مما يعني أن الفساد المالي والسياسي لم يعد ولا بأي شكل من الأشكال ظاهرة محلية أو حكرا على شعب من الشعوب، فهو في المحصلة النهائية يستطيع النفاذ إلى مختلف الدول متسلحا بالقوة السياسية وعليه لا بد من القيام بمجهود عالمي لمكافحة هذه المعضلة التي اصطبحت تؤرق المجتمعات وتهدد استقرار الدول.