الأزمة المالية.. الخلاص يستلزم عبور 3 أزمات أخرى

هذا هو موسم مؤتمرات النقد الدولية. ففي آذار (مارس) اجتمع الزعماء الوطنيون في نانجينج بالصين لإلقاء الخطب حول أسعار الصرف والفائدة. وفي أوائل نيسان (أبريل) التقى مفكرون بارزون وصناع قرار سابقون في بريتون وودز في نيو هامبشاير، التي شهدت مولد صندوق النقد الدولي ونظامنا النقدي الدولي الحالي المعتمد على الدولار في عام 1944.
اتسم مؤتمر بريتون وودز في عام 1944 بالتصادم بين الولايات المتحدة التي مثلها رجل الاقتصاد هاري ديكستر وايت، والمملكة المتحدة التي مثلها رجل الاقتصاد جون ماينارد كينز. فكانت المملكة المتحدة راغبة في إقامة نظام، يتم بموجبه تنظيم السيولة العالمية بواسطة مؤسسات متعددة الأطراف، في حين فضلت الولايات المتحدة لأسباب تتعلق بمصلحتها الذاتية نظاماً قائماً على الدولار.
ونظراً لعِظَم قوتها الاقتصادية والمالية، نجحت أمريكا ـــ كما كان متوقعاً ـــ في الخروج من موقعة ذلك اليوم منتصرة. وفشل كينز في سعيه إلى منح صندوق النقد الدولي السلطة اللازمة لخلق وحدة احتياطية دولية جديدة كبديل للدولار. كما فشل في تأمين الاتفاق بشأن التدابير التي قد ترغم بلدان الفائض فضلاً عن بلدان العجز، والجهات المصْدِرة للعملة الدولية، إلى جانب مستخدمي هذه العملة، على التصحيح وفقاً لذلك.
وما زال الفشل الأخير يطاردنا حتى يومنا هذا. إن البلدان التي لديها فوائض خارجية مزمنة، مثل الصين، والبلدان التي تُستَخدَم عملاتها دولياً على نطاق واسع، مثل الولايات المتحدة، لا تواجه الضغوط نفسها التي تواجهها دول أخرى لتصحيح سياساتها حينما ينشأ الاختلال في التوازن الاقتصادي.
لقد وعد صناع السياسات في نانجينج بمعالجة هذه المشكلة. ولقد كلفوا مجموعة العشرين بوضع مجموعة من المؤشرات الكفيلة بتنبيهنا عندما تصبح أي دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين، معرضة لخطر الوقوع في أزمة. كما دعوا إلى عملية تضمن عندما تومض أضواء الإنذار إلزام الدولة المعنية بتصحيح سياساتها.
ولكن من المؤسف أن مؤشرات الإنذار المبكر هذه أفضل في عكس الأزمة الأخيرة مقارنة بقدرتها على منع الأزمة التالية. إن طبيعة المجازفة المالية تتغير على نحو مستمر وبأشكال يصعب التنبؤ بهما باستخدام مؤشرات رجعية النظرة مثل تلك التي تبتكرها مجموعة العشرين. وفي كل الأحوال فإن العملية الوحيدة الكفيلة بالعمل على مثل هذه المؤشرات تتلخص في ''ضغوط الأقران''، التي من غير المرجح أن تسفر عن تحقيق النتائج المرجوة.
وثمة فكرة سائدة أخرى سوف تثبت في النهاية أنها غير عملية على الإطلاق، وهي تتخلص في تحويل ائتمان صندوق النقد الدولي المعروف بحقوق السحب الخاصة إلى عملة دولية تنافس الدولار. والمشكلة هي أن حقوق السحب الخاصة لا تستخدم لتسوية المعاملات التي تتم عبر الحدود ولا تستخدم كوحدة يمكن من خلالها تقييم السندات الدولية. وهذا يعني عدم وجود أسواق خاصة لحقوق السحب الخاصة، ولا شك أن إنشاء مثل هذه الأسواق يشكل مهمة عسيرة وطويلة.
وكي تصبح حقوق السحب الخاصة عملة عالمية حقيقية لا بد من تمكين صندوق النقد الدولي من إصدار مزيد منها في أوقات الأزمات، مثلما زود بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي البنوك المركزية الأجنبية بنحو 120 مليار دولار في هيئة قروض طارئة في أعقاب انهيار ''ليمان براذرز''. أو بعبارة أخرى، سيكون من الضروري منح صندوق النقد الدولي سلطات البنك المركزي العالمي. ويبدو من غير المرجح أن يميل رون بول، رئيس اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يؤمن بحرية الإدارة، والذي يشك في احتياج الولايات المتحدة إلى بنك مركزي، إلى الموافقة على أمر كهذا.
وبدلاً من ذلك فإن ما سيحل في نهاية المطاف محل النظام النقدي والمالي الذي يتمحور حول الدولار يتلخص في نظام ثلاثي الأقطاب يستند إلى الدولار واليورو والرنمينبي الصيني. فعلى الرغم من كل الصراخ والانزعاج في أوروبا بشأن مستقبلها، فإن اليورو لن يذهب إلى أي مكان. والصين من جانبها تعمل بكل نشاط على تدويل عملتها ــــ وهي تحرز تقدماً أسرع من تقديرات أغلبية الناس.
إن العالم سيكون مكاناً أفضل نتيجة لهذا. ووجود البدائل للدولار سيعني أن الجهات المصدرة للعملات المستخدمة دولياً سوف تستشعر انضباط السوق في وقت أسبق وبشكل أكثر اتساقا. وعندما تُظهِر الولايات المتحدة مرة أخرى علامات الوقوع فريسة للتجاوزات المالية، فلن تتلقى القدر نفسه من التمويل الأجنبي الذي كانت تتلقاه في الماضي. وعلى أية حال فإن البنوك المركزية الساعية إلى تكديس الاحتياطيات من العملات الأجنبية ستجد البدائل للاحتفاظ بالدولار، حيث لا يمنح الأجانب أمريكا الحبل الكافي لتشنق نفسها به.
وستكون النتيجة الطبيعية لذلك الحياة في عالم مالي أكثر أمنا. فمن المعروف أن السبب المطلق الذي أدى إلى الأزمة المالية أثناء الفترة 2007 ـــ 2009 كان يتلخص في التناقض الخطير بين اقتصادنا العالمي المتعدد الأقطاب ونظامه النقدي والمالي الذي لا يزال الدولار يهيمن عليه.
والنبأ السار هنا هو أن هذا الوضع سيتغير على مدى العقد القادم، حيث تعود الترتيبات النقدية الدولية إلى الاتساق مع الواقع الاقتصادي. أما النبأ السيئ فهو أن عشرة أعوام تُعَد فترة طويلة للغاية. وإذا استرشدنا بالتاريخ الحديث فسيتبين لنا أن الخلاص قد لا يتأتى قبل عبور ثلاث أزمات أخرى.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي