بتروناس.. التمويل الإسلامي والنوايا الصادقة
التقيت أخيراً في ورشة عمل المهندس الماليزي المنفذ للبرجين التوأمين ''بتروناس'' في كوالالمبور، فأبلغني أنهم كانوا ملتزمين بالكامل في تنفيذهم للمشروع بالتمويل الإسلامي، وعدم الحصول على أية قروض ربوية، كما أنهم كانوا ملتزمين بالدفع للعاملين بشكل يومي، وإضافة إلى ذلك فقد ذكر لي أنهم كانوا يعقدون لقاءاتهم التشاورية الحاسمة في المسجد، وذلك لأن الماليزيين يستحيل أن يكذبوا في المسجد.
بهذه الأخلاق كانت انطلاقة التمويل الإسلامي في ماليزيا، كما كانت انطلاقة التمويل الإسلامي في معظم دول العالم.
لقد توجهت دول إسلامية عديدة إلى العمل المصرفي الإسلامي على اختلاف بينها وتفاوت في التطبيق، وفي الأخذ بالاجتهادات المختلفة حول صيغ وأدوات العمل المصرفي الإسلامي، وكانت التجربة المصرفية الماليزية من أكثر التجارب نجاحا وازدهارا، بالرغم مما وجه إليها من اعتراضات وانتقادات وشبهات.
وقد انطلقت هذه التجربة من سلامة التوجه والقصد في الحرص على التمويل الإسلامي، وأدواته بغض النظر عن الاختلافات في الاجتهادات الفقهية، فسلامة النية تدخل الأفراد والمؤسسات في معاملات طيبة مشروعة، حتى ولو وجدت فيها بعض الشبهات، ولسنا مطالبين بالكشف عما تضمره القلوب، أو تخفيه النفوس من توجهات أو نوايا خبيثة.
إن إغلاق الأبواب على كل من رفع شعار العمل المصرفي الإسلامي واتهامه بالتحايل والاحتيال ليس فيه مصلحة لأحد، بل هو مصادرة ومحاكمة للتوجهات والنوايا الطيبة والصادقة من قبل من لا يحق لهم إصدار هذه المحاكمة أو إطلاق هذه الأحكام.
إن بين الوسيلة المشروعة والوسيلة المحرمة تشابها كبيرا في الشكل أو الصورة، واختلافا كبيرا في الحقيقة والجوهر، وقد يكون من أبرز أسباب المشروعية والقبول وجود النية والقصد المباح. ومن أبرز أسباب الرفض والحرام وجود النية والقصد المحرم، وذلك أمر واضح بشكل كبير في العقيدة والعبادات، وكذلك في المعاملات.
فعندما اعترض كفار قريش على تحريم الربا بقولهم ''إنما البيع مثل الربا''، أجابهم رب العزة والجلال بقوله: ''وأحل الله البيع وحرم الربا''.
فوجود النية والقصد إلى العمل الشريف والمتاجرة ومحاولة تحقيق الربح قد جعل العملية بيعا حلالا، بينما وجود النية والقصد إلى الإقراض الاستغلالي والحصول على العائد المضمون بدون عمل قد جعل العملية ربا محرما.
والحكمة في ذلك واضحة، فالقصد إلى المتاجرة الشريفة يولد في النفس مشاعر طيبة نقية تقوم على التعاون، والتكافل، والتراحم، ولا تقوم على الاستغلال أو الانتهازية أو إخفاء العيوب، بينما القصد إلى الربا، والعائد المضمون دون عمل أو سعي يولد في النفس الأنانية والانتهازية، وعدم الشعور مع الناس، وما يعيشونه من ظروف اقتصادية صعبة.
ويبدو أن لذلك حكما أخرى عديدة، منها أن المرء عندما ينوي القيام بالفعل الحلال، فإن جميع طاقاته السلبية تتحول إلى طاقات إيجابية، كما تتهيأ الروح للتسامي وتخزين الطاقة الإيجابية. ويحدث العكس عندما ينوي المرء القيام بالفعل المحرم، حيث ينعكس أثر هذه النية في جميع الطاقات الإيجابية فيحيلها إلى طاقات سلبية.
ومن هنا، فإن للقصد والنية آثارا مهمة جدا في مشروعية العمل الفردي والجماعي، المدعوم باجتهادات فقهية محترمة من قبل العلماء الذين يعتد بهم، أما إذا كانت النوايا موجهة لتتبع الرخص الحرام، فلا شك أن هذه النوايا ستنعكس سلبا على أصحابها، وتحيل طاقاتهم الإيجابية إلى طاقات سلبية تلحق بهم وبمجتمعاتهم أفدح الأضرار في دنياهم وآخرتهم.
إن انتشار واشتهار النوايا والمقاصد الطيبة على مستوى المجتمع، وبالتالي اصطلاح الناس على التعاطي مع الطيبات ونبذ الخبائث، يعين المجتمع على الانطلاق والتقدم.
أما اصطلاح الناس بعلمائهم وعوامهم على الكذب، والتواطؤ، والتحايل، فإنه يعيق المجتمع عن التقدم، ويؤدي إلى التخلف، وضيق العيش، ويصبح المجتمع مستحقا اللعنة، كما استحقها اليهود الذين لعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم، لأنهم تواطؤوا على المنكر، والظلم، وارتكاب الفواحش، وكانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
إن مجرد توجه الأفراد أو المؤسسات للعمل المصرفي الإسلامي بنوايا صادقة هو أمر معتبر مأجور، وذلك يعني أن مجرد تحول الفرد للتعامل المصرفي المشروع يدخله في طريق آمن للتعامل الحلال. وليس الفرد مطالبا بعد ذلك بالأخذ بجميع الاجتهادات والاختلافات حول الطريق الذي سلكه، فهذه الاجتهادات هي اجتهادات محترمة معتبرة، ولكنها ليست ملزمة لجميع البشر.
ولا يؤخذ من كل ما تقدم بأية حال من الأحوال قبول أو اعتراف بأية صيغ أو أدوات أو منتجات مالية يطلق عليها إسلامية، والإسلام منها براء، وإنما القصد مما تقدم هو الترحيب بجميع التوجهات الإسلامية والنوايا الصادقة والمقاصد المشروعة. فالعبرة كما يقولون للمقاصد والمعاني وليس للألفاظ والمباني.